اللغة العربية وطن وهوية.. والفرنسية منفى!

مالك حداد

 

هل جربت ألم العجز عن الكتابة والحديث باللغة العربية؟ وهل تخيلت يوما أنك يمكن أن تعيش مأساة النفي اللغوي، فتتحدث -رغما عنك- بلغة المستعمر الذي يحتل أرضك، ويقهر شعبك، ويتعامل معك باستكبار واحتقار، فيصفك بأنك متخلف على الرغم من أنه ينهب ثرواتك ليبني بها الدور والقصور والمصانع، ويُنتج بها الأسلحة التي يستخدمها في إبادة شعبك، وقتل رفاق صباك؟!

لا يعلم قيمة النعمة إلا من فقدها، ولا يعرف الشوق إلى لغة العرب إلا من يكابده، والمحن تعلّم الإنسان كيف يكتشف الجمال في الكلمات، ويدرك وظيفته الحضارية ودوره التاريخي، ويتطلع إلى قيادة شعبه للحرية والتحرير والاستقلال.

والمثقف يكافح باستخدام لغته، ليعيد الوعي إلى شعبه، بقدرته على تحقيق إنجازات حضارية مهما كانت الأخطار والآلام، ويتفاهم مع جمهوره بكلمات يمكن أن تشق طريقها إلى القلوب.

إبداع جزائري.. ولكن بالفرنسية!

تطلعت منذ شبابي إلى ثورة الجزائر، فهي أهم إنجاز حضاري عربي في العصر الحديث، وكان الفخر بها يملأ نفسي، فمضيت أبحث عن الإنتاج الذي قدّمه الأدباء الجزائريون.

وقرأت الكثير من هذا الإنتاج مترجَما عن اللغة الفرنسية، والترجمة -مهما كانت كفاءة المترجم- لا تصور تماسك النص وجمال الرموز.

لقد كتب الأدباء الجزائريون رواياتهم وشعرهم باللغة الفرنسية، لأن الاستعمار الفرنسي فرض لغته وسيلة للتعليم، فلم يكتف باحتلال الأرض لكنه كان يعمل لفرض استعماره اللغوي الثقافي على الجزائر ليحولها إلى قطعة من فرنسا، ولم يكن أمام بعض المثقفين الذين تعلموا في مدارس الحكومة وفي الجامعات الفرنسية سوى أن يكتبوا باللغة الفرنسية، ولكنهم كانوا يشعرون بالقهر والغربة والنفي اللغوي.

مالك حداد: إنني أرطن!

عبّر مالك حداد عن مأساة جيله من أدباء الجزائر الذين كتبوا بالفرنسية بقوله: “إن الفرنسية هي منفاي الذي أعيش فيه، ولو كنت أعرف الغناء لقلت شعرا عربيا.. إنني أرطن ولا أتكلم!”.

وجّه مالك حداد اللوم إلى أبيه -في ديوانه ” الشقاء في خطر”- لأنه وجّهه ليتعلم في مدارس فرنسا وجامعاتها بدلا من الكتاتيب، فلم يتعلم اللغة العربية، إذ يقول:

لكلمة وطن عندنا طعم الغضب

أبي.. يا أبي

لماذا حرمتني

تلك الموسيقي المنسوجة من لحمي ودمي

انظر إليّ

إلى ابنك

ابنك الذي يلقن أن يقول في لغة غريبة

تلك الكلمات الحلوة التي كان يعرفها

عندما كان راعيا

ومن المؤكد أن الفرنسية لا تصلح لتلك الموسيقى العربية التي نسجها العرب من قلوبهم وأرواحهم طوال التاريخ، ولم تكن الفرنسية قادرة على أن تعبّر عن طعم غضب العربي على الاستعمار.

يقول مالك حداد: “إن الكاتب الجزائري الذي يكتب بلغة المستعمر هو ضحية التاريخ، فهو يؤمن بأن الكتابة باللغة الأم ستكون أصدق، وأكثر قدرة على التعبير عن حقيقة أفكاره، فاللغة العربية أهم معالم هوية المجتمع الجزائري، أما لغة المستعمر فإنها منفى رمزي، وعزلة وجودية”.

ويضيف: “إنني مفصول عن وطني بحاجز البحر الأبيض المتوسط، بقدر أقل مما أنا مفصول عنه بحاجز اللغة الفرنسية!”.

هذا يوضح أن مالك حداد مثقف يدرك خطورة الانفصال عن الوطن، والاغتراب عنه في اللغة الفرنسية، وأن هناك علاقة قوية بين اللغة وتاريخ الوطن وتراثه وغضبه وثورته، وآمال رجاله، وأحلام شبابه، وجمال نسائه.. فكيف يمكن أن يعبّر المثقف عن ذلك كله بلغة المستعمر المستكبر الذي يستخدم قوته الغاشمة في تشويه بهاء الوطن.

أقسى من غربة المكان!

يرى مالك حداد أنه يعيش مأساة اللسان الأجنبي الذي يفكر وينطق ويكتب به، وهذا يشكل غربة أشد وقعا على النفس من غربة المكان.

هل الحرمان من اللغة الأم يُتم؟! أجل بالتأكيد، فهذه النتيجة توصل إليها مالك حداد بعد أن قدّم باللغة الفرنسية الكثير من الإنتاج الأدبي المتميز الذي يشكل فخرا لهذه اللغة.. لكن أين أنا؟ وما فائدة كل ذلك إن كنت أشعر باليتم؟!

بهذا المعنى يعبّر مالك حداد عن شعوره بفقد لغته الأم، فيقول: “لم نتعلم من فرنسا إلا يُتمنا!”.

كان مالك حداد يتيما يعيش في منفى هو اللغة الفرنسية، يكتب بها ليقول لفرنسا: “أنا جزائري.. أنا لست فرنسيا، ولن أكون!”.

كيف أخاطب أمي؟!

يتعجب مالك حداد كيف يمكن أن ينادي أمه بكلمة “مامي” الفرنسية، بدلا من كلمة “يا أمي أو يمة” باللغة العربية، وهذا يعني أن الكلمات تشكل عالما، وعلاقات إنسانية متميزة.

عندما تخاطب أمك بالكلمة العربية التي تحمل معاني الحب والاحترام، فإنك تشعر بجمال النداء: يا أمي.. هكذا اكتشف مالك حداد جمال الكلمة عندما عانى الحرمان منها، فقال:

أمي أبدا جميلة

إني معها كل يوم

ولكن اسمها الحقيقي عربي

ابكِ يا أماه

هذا الصغير الذي غدا ابنك جدير بالدموع

منذ اهتدى إلى أن يناديك يا أمي

فباسم مواسم الحصاد دعاك أمه

ومن صدرك شرب طعم الضياء

الآن يجب أن أصمت!

بعد أن انتصرت ثورة الجزائر، عاد مالك حداد إلى أرض الوطن، فتخلص من غربة المكان، لكنه لم يتمكن من التحرر من غربة اللغة، وظل مقتنعا بأنه محروم من أعلى مقومات وجوده، من لغته العربية، ففضل الصمت مبررا ذلك بقوله: “تتجلى مأساتي الآن بشكل أعمق.. أنا أقف أمامكم الآن.. لا أعرف كيف نتفاهم!”.

وتجربة مالك حداد يمكن أن تفتح لنا مجالا علميا جديدا لتطوير علاقتنا باللغة العربية، والوفاء بحق أبنائنا في توعيتهم بدورها في تشكيل حياتهم ومستقبلهم، وحمايتهم من الغربة اللغوية.

المصدر : الجزيرة مباشر