صوت الشعب وقوة الأقلية.. أزمة الديمقراطية

شرطة مكافحة الشغب ترش متظاهرين بالمياه (رويترز)

 

(1) الانتخابات لا تعبر عن الشعب

الديمقراطية في خطر، صندوق الاقتراع لم يعد يعبر عن الناس بقدر ما يعبر عن جماعات الضغط القادرة على الإنفاق على الحملات الانتخابية بسخاء لدعم مرشحها بالتأثير في الجماهير عبر شتى الوسائل المتاحة. هذا ما تنبأ به الفيلسوف الأمريكي “جون ديوي” حين قال: “الديمقراطية ستصبح ذات محتوى هزيل عندما يتحكم كبار رجال الأعمال في حياة البلاد عن طريق سيطرتهم على وسائل الإنتاج والبنوك والدعاية والمواصلات والاتصالات، والتحكم في الصحافة والإعلام والإعلان والدعاية”.

العالم يعيش أزمة حقيقية بالنسبة لمفاهيم الحكم الرشيد، حتى في الدول التي تعد معقلا للديمقراطية، مما جعل عددا من المفكرين والباحثين يطرحون فكرة إلغاء الانتخابات، ويعتقدون أنها يمكن أن تعيد الديمقراطية إلى مسارها الصحيح، على أن يتم اختيار نواب الشعب (في البرلمان والمجالس البلدية وغيرها) بطريقة الاختيار العشوائي من بين جميع فئات الشعب، مثلما يحدث في أمريكا عند اختيار المحلفين، ويرى هؤلاء المفكرون أن هذه الطريقة ستقضي على فساد الحكم والنخب السياسية وتأثير جماعات الضغط التي تعمل من وراء الستار، وأن نواب الشعب في هذه الحالة سيطرحون مشاكل الفئات التي يمثلونها ويجبرون الحكومات على إيجاد حلول لها ، ولن يكونوا مدينين لأحد، فليس لديهم فواتير واجبة السداد.

طبقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة عن أحوال الديمقراطية، فإن مستوى الديمقراطية التي يتمتع بها الشخص العادي عالميًّا عام 2021 انخفض إلى مستويات عام 1991. وهو ما يعني أن المكاسب الديمقراطية التي تحققت في السنوات الثلاثين الماضية قد تضاءلت بشكل كبير، وأظهر التقرير أن الثقة في المؤسسات تتلاشى يومًا بعد يوم، ويشعر الناس بأنهم متجاهَلون، وكأن الديمقراطية لم تفِ بوعدها كاملًا.

وأضاف التقرير أن الناس يرغبون في إسماع أصواتهم، ويطالبون بأنظمة اقتصادية واجتماعية تعمل من أجل الجميع، وبالمشاركة في صنع القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن احتجاجات الشعوب هي تعبير عن حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، وبالتالي يجب احترامها وتيسيرها من قبل الحكومات ولا ينبغي أن يُنظَر إليها على أنها تشكل تهديدات، بل إن توفير المساحات اللازمة للمشاركة العامة هو من أكثر الطرق فعالية للسلطات كي تدرك مظالم الناس وتتخذ قرارات أفضل ومستنيرة. هذا التقرير يتعارض مع ما يحدث في العالم الآن وخاصة في فرنسا وإسرائيل الديمقراطيتين.

(2) شرعية الشارع الفرنسي

عبر متظاهر فرنسي ببلاغة عن رفضه لقانون مد سن التقاعد، الذي مررته الحكومة من دون عرضه على البرلمان، قائلا: “أعارض هذا الإصلاح وأعارض حقيقة أن الديمقراطية لم تعد تعني شيئا، نحن لا يمثلنا أحد، فاض بنا الكيل”.

وقال آخر: “الشارع في فرنسا له شرعية، إذا لم يتذكر السيد ماكرون هذه الحقيقة التاريخية، فأنا لا أعرف ما الذي يفعله هنا”؟

انتفض الشارع الفرنسي ضد القانون الذي يرفع سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 عاما، وشاركت النقابات وأحزاب المعارضة في هذه المظاهرات، ولقد هددت النقابات بتنظيم تظاهرات ضخمة في السادس من أبريل القادم في حال عدم التراجع عن القانون. لكن الرئيس الفرنسي ما زال متمسكا به مصرا على أن يدخل حيز التنفيذ نهاية هذا العام واصفا الإصلاحات بأنها ضرورية، أما “إليزابيث بورن” رئيسة الوزراء فتحاول أن تعطي آمالا للغاضبين بوعد بمناقشة القانون بشكل موسع.

ماكرون، اختير رئيسًا لفترة رئاسية ثانية، لكن هذا لا يعنى أن الفرنسيين قدموا له شيكا على بياض، فمن حق كل مواطن فرنسي متضرر من هذا القانون أن يعرب عن رفضه، بعدما حُرم ممثلوه في البرلمان من التصدي له، إذ تم تمريره من دون الرجوع إليهم بعدما استندت الحكومة إلى المادة 49:3 من الدستور، التي تتيح للحكومة تبنّي مشروع قانون من دون الحاجة إلى موافقة البرلمان.

هذا القانون يعد القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فلقد تركت معدلات التضخم المرتفعة، وأزمة الطاقة، وتدنّي مستوى العديد من الخدمات العامة الفرنسيين فريسة للمخاوف، وكان من واجب الرئيس وحكومته أن يقدرا الضغوط التي يتعرض لها المواطن البسيط لا أن يزيدا الطين بلة.

(2) اليمين يتحكم بالديمقراطية

المظاهرات في إسرائيل ضد خطة الإصلاح القضائي التي قدمتها الحكومة اليمينية المنتخبة مستمرة، فهذه الخطة يعتبرها المعارضون بمثابة تسليم سلطة غير مقيدة إلى الحكومة ومن شأنها أن تحد من سلطة المحكمة العليا لإلغاء قرارات السياسيين، وتسمح لنتنياهو أو أي رئيس وزراء مستقبلي، بتجاوز حكم المحكمة بأغلبية بسيطة في البرلمان، وتجعل تعيين القضاة في يد السياسيين، وهذا الأمر يثير مخاوف فيما يتعلق بمبدأ فصل السلطات، واستقلال القضاء، وحماية الحقوق الفردية، وسيادة القانون.

هذه الخطة لاقت معارضة في داخل إسرائيل وخارجها، فلقد أعرب الرئيس الأمريكي عن قلقه مما يحدث في إسرائيل، وحث قادة الحكومة الإسرائيلية على إيجاد حل وسط في أسرع وقت. ومؤخرا أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تأجيل مشروع الإصلاح القضائي، وقال إن ذلك يأتي من منطلق الرغبة في منع شقاق في الأمة، ومن أجل التوصل لتوافق واسع في الآراء، لكنه لم يعلن إلغاءه وهو ما يصر عليه المعارضون.

يخاف التيار الليبرالي المعتدل في إسرائيل من توجهات اليمين المتطرف التي يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية، وخاصة أن أعداد هؤلاء تزداد يوما بعد يوم، حيث تحرص الأسر اليمينة على إنجاب المزيد من الأطفال، وخلال سنوات قليلة سيصبح اليمين أغلبية مما يسمح لهم بحكم إسرائيل من خلال صناديق الاقتراع وقيادة الدولة إلى المزيد من العنصرية والشقاق المجتمعي.

ما يحدث في العالم وخاصة في الدول التي تفتخر بأنها ديمقراطية يؤكد أنه لا توجد مجتمعات يحكمها الشعب بالأغلبية، فجميع المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات التي تسمى ديمقراطية، تحكمها في حقيقة الأمر أقلية لكنها الأقلية الفاعلة ذات التأثير والنفوذ.

المصدر : الجزيرة مباشر