من كراتين الفقراء إلى مسجد خيالي.. ما كل هذا التناقض؟!

مبادرة كتف بكتف

قبل بدء شهر رمضان المبارك بعدة أيام، كنت في طريقي إلى مدينة نصر، وعلى غير المعتاد كانت السيارات في الطرق الرئيسية والشوارع الجانبية متوقفة، أو شبه متوقفة، رغم أن الليلة كانت جمعة، وهو يوم إجازة.

وبعد عناء وصلت إلى المكان الذي كنت ذاهبًا إليه، وسبب ذلك أن إستاد القاهرة، وهو على مشارف مدينة نصر، كان يحتضن احتفالًا شعاره: “كتف في كتف”، وهو ما أعاق الحركة في الشوارع القريبة.

بعد ساعات عدت من نفس الطريق، وكان المهرجان قد انتهى، واستمعت في المواصلات العامة لحكايات عن التزاحم الشديد من مواطنين تقاطروا إلى الإستاد، أو تم نقلهم إليه، ليحصلوا على كراتين سلع غذائية مجانية يتم توزيعها خلال المهرجان.

وفيما بعد كان الاحتفال، وجمهور الحاضرين، وصور كراتين السلع، وكل ما جرى في هذه الليلة، مثار حديث واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يكن التناول إيجابيًّا، ولا أدري لماذا لا تهتم السلطة بالردّ الشعبي بشأن بعض الممارسات لتتجنب السلبيات في مناسبات مماثلة تالية، أو تتوقف عن أفعال معينة لا تصب في صالحها، وإنما تخصم منها، كأنه لا أحد يتابع، أو لا يود الاستفادة من نبض الرأي العام.

التكاتف على الطريقة المصرية

رسالة المهرجان وشعاره: “كتف في كتف”، هدفهما التضامن والتكاتف والتكافل الاجتماعي في وقت الشدائد، لكن على الطريقة المصرية بإقامة مهرجانات تغلب عليها الدعائية، أو توزيع كراتين مواد غذائية خلال الانتخابات، أو تصوير الفقراء وهم يهللون لأكياس السلع، أو ذهاب جمعيات أهلية معينة إلى بعض القرى ومنح الناس مساعداتها علنًا والتباهي بذلك في استثمار للفقر والمعاناة، وما إلى غير ذلك من سلوكيات فجّة مُحرجة لأصحاب الحاجات، مثلما تتم المتاجرة بالمرض والمرضى بمشاهد وصور مستفزة في إعلانات كثيفة في رمضان للحصول على التبرعات.

التكاتف الراقي لا يكون بجرح مشاعر الناس واستثمار احتياجاتهم، وإنما تقديم مختلف أشكال الدعم والإغاثة لهم بطريقة محترمة تحفظ كرامة المحتاج وتصون هيبة السلطة، ولا تخدش صورة البلد أمام أعين مواطنيه والعالم الخارجي.

مهرجان الإستاد، مثل غيره، تنظمه أحزاب معروفة يتم تخصيصها للقيام بهذا الدور، ويموله رجال أعمال معروفون أيضًا، وهم من يقومون بحشد الحضور؛ سواء في الإستاد، أو حوله، أو في أماكن أخرى في كل مناسبة بحاجة إلى مواطنين لهم صفات معينة لادعاء العفوية والحضور الطبيعي، ومن يفعلون ذلك هم أول من يعلمون أنهم يرسمون لوحة غير واقعية بالبشر.

مسجد مصر.. وتكلفته الضخمة

ما علاقة كل ذلك بمسجد مصر الذي تم افتتاحه فجر أول أيام رمضان، أي بعد أقل من أسبوع من احتفال الإستاد الذي أطلق عليه رواد فيسبوك وصف مهرجان الكراتين.

العلاقة هى التناقض بين تجمع في مكان عام يعترف بأن هناك أزمة معيشية لدى شرائح من الناس، وأن هذا التجمع يلتئم للتكاتف معهم ودعمهم ببعض المساعدات، وتوجيه رسالة إلى القادرين بأن يكونوا عونًا للضعفاء، ثم فورًا نجد أنفسنا أمام مسجد خيالي يفوق الوصف في الإنفاق عليه، حيث قيل إن تكلفته وصلت إلى 800 مليون جنيه، أو تجاوزت هذا المبلغ الضخم.

لا يستقيم وجود مصاعب وأزمات وفقر وفقراء ومحتاجين ثم يتم تشييد مسجد يدخل موسوعة غينيس فور افتتاحه بأطول منبر، وأكبر وأضخم نجفة، وهذه الأجزاء البسيطة من مسجد شديد الضخامة والتفاصيل تبلغ تكلفتها ملايين الجنيهات.

المنطق والعقل يقول إن هناك أولويات في المشروعات وخطط التنمية بمجملها وفي الإنفاق عليها، لا نقول يتم توزيع الـ800 مليون جنيه تكلفة المسجد على الناس لأن هناك غلاءً في المعيشة وارتفاعًا غير طبيعي في الأسعار وضائقة اقتصادية وضعفًا في القوة الشرائية للجنيه، ذلك أن توزيع هذا المبلغ يعني صرفه وينتهي الأمر، وهنا يكون بناء المسجد أبقى للزمن، واستثمار عمراني جيد، وإنما نقول إن هذه الأموال، وفي ظل هذه الظروف، يتم توجيهها إلى ما يُدرّ عوائد وأرباحًا، وتُستثمر في أعمال وأنشطة تساهم في تشغيل الناس والإنتاج، وأظن أنه هكذا يجب أن يكون النظر في مختلف المرافق غير الإنتاجية، أو غير المرتبطة بالبنية الأساسية، أو التي لا علاقة لها بحياة الناس.

البهرجة في حالة الوفرة

لست ضد إنشاء مساجد بطول البلاد وعرضها، أو إبهارها أو الإنفاق السخي عليها، فهي بيوت الله، ولها قداسة عظيمة، ولست ضد حدوث نفس الأمر في الكنائس ومختلف دور العبادة لمختلف الأديان، لكن البهرجة في دور العبادة والمراكز الدينية وغيرها من المرافق المدنية الترفيهية تكون مُستساغة في حالة الفوائض المالية، وفي زمن الوفرة والرخاء، وعندما يتحقق الاكتفاء في الأساسيات، أما في أوقات الأزمات الاقتصادية، ومصاعب العيش، وقسوة الحياة، والديون، ونضوب النقد الأجنبي لتمويل الاستيراد، والتضخم والركود، وتعثر قطاعات يعمل فيها ألوف وملايين، فإن المشروعات كلها، والإنفاق كله، يجب أن يكون محسوبًا بدقة تامة، والأولويات يتم ترتيبها بحزم صارم.

مع التوقير الشديد للمسجد ورمزيته، لكن هل أطعم جائعًا يوم افتتاحه، أو فطّر صائمًا عانى في تدبير وجبته؟ بالطبع لا، لكن المصنع الذي دفع أجرًا للعامل فاشترى حاجته لا يقل قيمة ودورًا عن المسجد في هذه المرحلة.

الإيمان ليس بعدد وحجم دور العبادة في كل دين، وإنما بالعمل الجاد، وبناء الإنسان والمجتمعات والدول لتكون ذات شأن وسط الأمم، وصيانة المال العام، وحسن استثماره، والإدارة الرشيدة للموارد، ودراسات الجدوى للمشروعات، والحوكمة في كل القطاعات والأعمال، ومن هنا تكون النهضة الجادة.

مصر عامرة بدور العبادة؛ مساجد وكنائس، ولكنها بحاجة إلى زرعها كلها بالفسائل والمصانع والمدارس والمستشفيات والمساكن، وكل ما يحفظ عزة وكرامة الإنسان.

المصدر : الجزيرة مباشر