الحالمون بالعدالة في غياهب النظام العالمي الظالم

بوتين

 

(1) حين يصبح القاتل بطلًا

في عام 2014، فاجأ النجم والمخرج الأمريكي المعروف كلينت أستوود العالم بفيلمه “القناص الأمريكي” بطولة النجم برادلي كوبر الذى جسد فيه شخصية القناص الأمريكي كريس كايل الذي يعد أكثر القناصة فتكًا في تاريخ العسكرية الأمريكية، من خلال جولاته الأربع في العراق قتل 160عراقيًا طبقًا لأرقام البنتاجون، أما كايل في مذكراته فيرفع العدد إلى 255 عراقيًا قتلهم بدم بارد، الفيلم المأخوذ عن السيرة الذاتية للقناص الأمريكي الصادرة في 2012، وهو ملئ بالمغالطات والأكاذيب، بعد الترحيب الذي قوبل به الفيلم جماهير ياعلق المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي قائلًا: “لماذا يحب الأمريكيون قاتلًا يفتخر بأول عملية قتل له كإرهابي؟ تلك المرأة التي قتلها في الشارع والتي خرجت تدافع عن وطنها، لا يمكننا أن نعتبر هذا مجرد تفكير قاتل سيكوباتي لأننا جميعًا ارتكبنا هذا الخطأ عندما تسامحنا وصمتنا أمام السياسات الرسمية”.

الفيلم يجسد تراث رعاة البقر والمستوطنين الأوائل المبني على العنف والقتل الممنهج للاستيلاء على ما لدى الغير بالقوة، لذا بدا تعليق الرئيس الأمريكي جو بايدن، على مذكرة التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي بوتين، غير متسق مع ما أقدم عليه الأمريكيون في الحروب، فلقد رحب بها وقال إن المذكرة تمثل نقطة قوية للغاية، وإن بوتين ارتكب جرائم حرب بوضوح.

وجدير بالذكر أن إدارة الرئيس السابق ترمب أصدرت عقوبات على المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية “فاتو بنسودا” وعدد من موظفي المحكمة، لأنها كانت تريد فتح تحقيق في جرائم حرب أمريكية محتملة في أفغانستان.

 (2) القارة السمراء.. إدانات بالجملة

المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها التعامل إلا مع الجرائم التي ارتكبت بعد 1 يوليو/تموز 2002 عندما دخل قانون روما الأساسي، النص التأسيسي للمحكمة، حيز التنفيذ، أكبر عدد من الإدانات كانت لزعماء أفارقة، وكأن الشرور تنحصر في أفريقيا حيث تعيش عدد كبير من دولها في صراعات قبلية وعرقية ولا يتمتع الحكم فيها بالاستقرار.

كان أول حكم للمحكمة، في مارس 2012، ضد توماس لوبانغا، زعيم إحدى الميليشيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وحُكم عليه في يوليو بالسجن لمدة 14 عامًا، وأكثر الشخصيات شهرة ممن مروا على المحكمة الجنائية الدولية هو رئيس ساحل العاج السابق لوران غباغبو، الذي اتُهم في عام 2011 بالقتل والاغتصاب، ثم الرئيس الكيني أوهورو كينياتا الذي أدين في عام 2011 فيما يتعلق بالعنف العرقي الذي أعقب انتخابات 2007، ومن بين المطلوبين من المحكمة الجنائية الدولية قادة حركة التمرد الأوغندية وجيش الرب للمقاومة وزعيمها جوزيف كوني المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ونتذكر مذكرة التوقيف الخاصة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير، وهي الأولى التي صدرت ضد رئيس دولة لا يزال في منصبه، وجهت له تهم الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

تعرضت المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات، خاصة من قبل الاتحاد الأفريقي، لتركيزها على أفريقيا، خلال عمر المحكمة، وجهت التهم فقط ضد الأفارقة السود، حتى صدرت مذكرة التوقيف في حق الرئيس الروسي بوتين، وهذه أول مرة يتم إصدار مذكرة إيقاف في حق زعيم دولة عظمى نووية، وهو ما يثير التساؤل حول حيادية المحكمة ونزاهتها، فهي لم تصدر مذكرة إيقاف في حق الرئيس الأمريكي بوش الابن ولا توني بلير رئيس الوزراء البريطاني عن جرائم الحرب التي ارتكبت في العراق بسبب الغزو الأمريكي غير المبرر الذي أودى بحياة مئات الآلاف من العراقيين ودمر بلدهم، بل بالعكس عارضت إدارة بوش المحكمة بشدة، وهددت الولايات المتحدة بسحب قواتها من قوة الأمم المتحدة في البوسنة ما لم يتم منح جنودها حصانة من المحاكمة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وفي قرار تعرض لانتقادات شديدة، صوّت مجلس الأمن الدولي في 12 يوليو عام 2002 على حل وسط يمنح القوات الأمريكية إعفاءً من الملاحقة القضائية لمدة 12 شهرًا، ويُجدد سنويًا!!!

 (3) فلسطين.. المنكوبة بالظلم

في مارس 2021، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بيانًا أعاد للملايين حول العالم الأمل في تمكين العدالة جاء فيه أن اختصاصها القضائي يشمل الأراضي الفلسطينية، وأعلنت “فاتو بنسودة” رئيسة الادعاء العام بالمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق رسمي في جرائم حرب حدثت في الضفة الغربية والقدس الشرقية الخاضعتين للاحتلال الإسرائيلي، وكذلك قطاع غزة، منذ يونيو عام 2014، ورفضت إسرائيل قرار بنسودة، بينما رحب به مسؤولون فلسطينيون وسائر العرب واعتبروه إنجازًا مهمًا على طريق إرساء العدل، لكن بعد انقضاء عامين على هذا الأمر لم يتم شيء على أرض الواقع، ولم يتم إدانة مسؤولين إسرائيليين بعينهم من قبل المحكمة.

ومؤخرًا، خرج علينا وزير المالية الإسرائيلي المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” بتصريح عنصري مدعيًا بأنه “لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، فهو اختراع وهمي لم يتجاوز عمره 100 سنة”، رد الفعل على تصريحاته كان مجموعة من الإدانات والشجب دون ضغط دولي حقيقي أو تهديد بعقوبات على حكومة اليمين المتطرف التي تحكم إسرائيل الآن. على الجانب الآخر نجد أمريكا والغرب تتخذ مواقف حاسمة وسريعة تجاه روسيا، فيتم الحشد لمؤتمر سريع في لندن بعد ثلاثة أيام فقط من إصدار المحكمة مذكرة توقيف بحق الزعيم الروسي، حيث قررت 40 دولة حضرت المؤتمر تقديم موارد مالية وتقنية إضافية إلى المحكمة الجنائية الدولية لدعم تحقيقاتها في أوكرانيا للإسراع بإدانة بوتين.

العالم بنظامه الدولي الحالي لا يعترف إلا بالقوة، ويضعها فوق الحق والعدل والإنسانية، وأي تصريحات أخرى تناقض ذلك من زعماء الدول العظمي ولا أستثني أحدًا، فهي محض أكاذيب، الحق يحتاج قوة تحميه ولا يجد أنصارًا في حين أن الظلم لديه جيوش جرارة تدافع عنه للأسف.

المصدر : الجزيرة مباشر