العدالة المفقودة في الدعم الحكومي للنقابات المهنية

عندما دخلت مجلس نقابة الصحفيين للمرة الأولى عام 1999 اتفق فريقا المجلس من الحكوميين واليساريين، على اختياري أمينًا للصندوق رغم عدم انتمائي إلى أي منهما، وكان من أبرز مهام هذا المنصب صرف المعاشات، وصرف بدل التدريب والتكنولوجيا للصحفيين، وهي تسمية ابتكرها النقيب إبراهيم نافع مع ترشحه لمنصب النقيب عام 1985، للمبلغ الذي يجلبه من الحكومة لكل صحفي مع الانتخابات بشكل شهري منفصلا عن الراتب.

ومع كل انتخابات لمنصب النقيب التي تتم كل عامين، يقوم المرشح الحكومي بالحصول على مبلغ إضافي للبدل، يكون عادة سببا رئيسيا في حصوله على أصوات أكثر، حتى إنه تسبب في فوز إبراهيم نافع على جلال الدين الحمامصي، بتاريخه المهني الناصع في انتخابات منصب النقيب.

وتقوم وزارة المالية بإرسال قيمة البدل الشهرية لكل الصحفيين إلى المجلس الأعلى للصحافة -سابقا- الذي يستبعد بعض الصحفيين مثل العاملين في مكاتب الوكالات الأجنبية، ثم يرسل لكل مؤسسة صحفية قومية نصيبها من البدل لتوزعه على العاملين بإصداراتها من الصحف والمجلات، ويرسل إلى نقابة الصحفيين مخصصات الصحفيين بالصحف الحزبية والخاصة لتوزّعها عليهم، لكن البيروقراطية الحكومية كانت تتسبب عادة في تأخر وصول البدل مدة شهرين أو ثلاثة أحيانا.

وفي أحد الأيام خلال وجودي بالنقابة سمعت ضجيجا غير مألوف وهياجا وصياحا من أحد الصحفيين، وعلمت أن السبب يتعلق بالإدارة المالية التابعة لي نظرًا إلى تأخر وصول البدل، واستقبلت الصحفي الذي يعمل بإحدى الصحف الحزبية غير المنتظمة في صرف الأجور في مكتب أمين الصندوق، وبعد أن شرب الشاي وهدأ عاتبته على صياحه من أجل مبلغ ضئيل، فرد بأن ابنته الصغيرة مريضة ولا توجد أيّ نقود بالمنزل لشراء العلاج، فخرج ليسأل عن البدل حتى يشتري العلاج ويسرع بالعودة لابنته، وسألني ماذا يقول لزوجته الآن؟

  زيادات للصحفيين والإداريين والعمال والمعاشات

وأدركت أهمية هذا البدل للزملاء العاملين في الصحف المتعددة المتوقفة عن الصدور، حيث يعد بمثابة الدخل الوحيد لهؤلاء، وكان لابد من حل لمسألة تأخر البدل في بعض الأوقات، وكلمت النقيب إبراهيم نافع فطلب مني لقاء وزير المالية محيي الدين الغريب حيث كان على خلاف معه حينذاك، الذي كلف أحد معاونيه بعلاج المشكلة، لكن البيروقراطية تسببت في تكرار التأخر.

وهنا ادخرنا قدرا من المبالغ التي لم يتم صرفها، ليُصرَف بها البدل في موعد شهري محدد بغض النظر عن عدم وصوله من المالية، رغم أن جهاز المحاسبات اعتبر ذلك مخالفة مالية وأنه كان يجب أن ننتظر حتى يصل البدل.

أسوق تلك القصة للتنبيه إلى أهمية البدل في حسم انتخابات منصب النقيب خاصة مع موجة الغلاء الفاحش التي يمر بها المصريون جميعا، واستمرار تعطل العديد من الصحف الحزبية واعتماد العاملين بها على البدل، علمًا بأن وعد مرشح الحكومة بالزيادة هذه المرة يصل إلى 600 جنيه شهريا، فضلًا عن الزيادة التي تمت في يوليو/ تموز الماضي فأصبح البدل ثلاثة آلاف جنيه حينذاك.

وقد تسبب البدل في استفادة فئات أخرى من غير الصحفيين مع كل انتخابات نقابية، حيث شكا العاملون بالمؤسسات الصحفية الحكومية من عمال وإداريين بالمطابع والتوزيع وغيرهم، من استبعادهم رغم أن لهم دورا رئيسيا في العملية الصحفية، فكانوا يمنحون مبلغا إضافيا مع كل زيادة لبدل الصحفيين، كما استفاد أصحاب المعاشات من الصحفيين، حيث أصبحوا غالبا يحصلون على زيادة بقيمة معاشهم من نقابة الصحفيين مع كل زيادة في هذا البدل، وفي هذه المرة هناك وعد بزيادة المعاش من 2500 جنيه حاليا إلى ثلاثة آلاف جنيه.

ولأن أخبار الزيادة سواء للصحفيين أو للعاملين بالصحف أو لأصحاب المعاش من الصحفيين، يتم نشرها بالصحف بكثرة خلال الموسم الانتخابي، إلى جانب المزايا الأخرى التي يحصل عليها المرشح الحكومي لمنصب النقيب من مساكن بأسعار أقل أو قروض ميسرة وغير ذلك، فإن تلك الأخبار تتسبب في ازدياد مشاعر الامتعاض -وهو أقل وصف يمكن ذكره- لدى أعضاء النقابات الأخرى، التي ترى إغداقا حكوميا على أعضاء نقابة الصحفيين، في حين تعاني نقاباتهم من عسر مالي وتأخر في صرف المعاشات رغم محدودية قيمتها.

 معاشات ضئيلة متعثرة بعدد من النقابات

حيث تبلغ قيمة معاش أعضاء نقابة التجاريين حاليا خمسين جنيها، ورغم ذلك فلم يتم صرف هذا المعاش منذ عدة سنوات لعدم وجود موارد كافية، ومعاش نقابة الاجتماعيين خمسين جنيها شهريا يتم صرفها كل ثلاثة أشهر، لكن الصرف توقف لقلة الموارد ووجود عجز مالي بالنقابة، ومعاش نقابة الزراعيين مئة جنيه وفي السنوات الماضية كان يتم صرف ثمانية شهور في السنة فقط، وتم رفعها إلى عشرة شهور في السنة لتبقى لهم خمسون شهرا متأخرة منذ سنوات، ويبلغ معاش نقابة المعلمين 120 جنيها شهريا ويتم الصرف كل ثلاثة أشهر، ومع ذلك لا تستطيع النقابة تحديد موعد ثابت خلال شهر الصرف لقلة الموارد.

وتشير بيانات جهاز الإحصاء إلى وجود عجز مالي خلال عام 2021 بالعديد من النقابات، منها نقابة المعلمين بقيمة 413 مليون جنيه خلال العام، و82 مليون جنيه لدى الزراعيين و21 مليون جنيه لدى الموسيقيين و20.5 مليون جنيه لدى الاجتماعيين، و13 مليون جنيه لدى نقابة التمريض، وكذلك يوجد عجز لدى نقابات الرياضيين والعلاج الطبيعي والمهن التمثيلية وأطباء الأسنان ونقابة التأهيل الحركي والإصابات.

وتاريخ اعتماد نقابة الصحفيين على الدعم الحكومي ممتد عبر عقود، منذ أن نص أول قانون للنقابة عام 1941 بالمادة 30 منه، على إنشاء صندوق للادخار يعتمد في جزء من تمويله على الإعانات الحكومية، كما نص قانون صندوق معاشات الصحفيين الصادر عام 1951 بالمادة الخامسة منه، على المساهمة السنوية للحكومة في تمويله وظلت وزارة الإرشاد القومي ثم وزارة الإعلام والمجلس الأعلى للإعلام تقوم بذلك حتى الآن.

حصيلة ضئيلة للموارد التقليدية للصحفيين

ورغم تعدد موارد نقابة الصحفيين فإن محصلتها ضئيلة، حيث يوجد قانون لفرض دمغة صحفية على الدفاتر والسجلات بالصحف، وغير ذلك من تعاملات الصحفيين بالنقابة منذ عام 1949، ثم صدر قانون آخر لنفس الغرض عام 1954 زاد من قيمة الطوابع، ثم قانون آخر عام 1987 رفع من القيمة لتصبح بين قرشين وعشرة جنيهات في الحد الأقصى، ولم تتغير قيمتها منذ ذلك الحين وحتى الآن.

وتُفرَض نسبة 1% على الإعلانات بالصحف، لكن يوجد حد أقصى سنوي على ما تدفعه الصحيفة الحكومية هو 50 ألف جنيه، وعشرة آلاف جنيه للصحيفة الحزبية أو الخاصة، مما يقلل من الحصيلة ومع ذلك تتأخر العديد من الصحف في سدادها لظروف العسر المالي بها.

كما كان يتم تأجير قاعات النقابة لندوات الأحزاب والقوى السياسية والجمعيات الأهلية، وقاعات الفنون لإقامة المعارض الفنية بها، إلا أن انسداد المناخ العام قبل وبعد كورونا عطل استخدامها.

ونظرًا لعدم ظهور البيانات المالية لنقابة الصحفيين للعام الماضي حتى كتابة هذه السطور مساء الأربعاء، فإن آخر بيانات مالية على الموقع الإلكتروني للنقابة تتعلق بعام 2018، وتشير إلى تحقيق النقابة فائضا بلغ 37.4 مليون جنيه، وهو الفرق بين الإيرادات البالغة 144.9 مليون جنيه والمصروفات البالغة 107 ملايين جنيه.

وباستعراض الأنواع التقليدية للإيرادات للنقابة نجد منها 683 ألف جنيه من الاشتراكات السنوية، و584 ألف حصيلة الدمغة الصحفية، و497 ألف جنيه حصيلة نسبة الـ1% من الإعلانات، و68 ألف جنيه من إيجارات قاعات النقابة.

وحتى لا يزداد الغموض حول رقم الإيرادات الكبير وتلك الإيرادات التقليدية الضئيلة فإن الفارق جاء من الحكومة، من خلال الحصول على 54 مليون جنيه من الدعم الحكومي، تم توجيه 19.5 مليون جنيه منها للمعاشات التي لها حساب مالي آخر منفصل، وضمن الإيرادات قيمة البدل للصحفيين بالصحف الحزبية والخاصة بقيمة 85.6 مليون جنيه، وفوائد الودائع ومليون من وزارة الإعلام وتبرع بقيمة 5 مليون جنيه من حاكم الشارقة.

   المطالبة بالعدالة في الدعم النقابي

وأذكر هنا ما حدث عندما اجتمع الدكتور هشام قنديل برؤساء النقابات المهنية عام 2012، حيث قال أسامة برهان نقيب الاجتماعيين حينذاك إن دعم نقابته يبلغ عشرة آلاف جنيه رغم بلوغ عدد الأعضاء 400 ألف عضو ونريد المساواة بنقابة الصحفيين، وقال سامح عاشور نقيب المحامين نريد ضخ مبالغ للنقابة مثلما تأخذ نقابة الصحفيين، وقال زكريا حشاد نقيب التطبيقيين نريد دعم النقابات بالعدل.

وعندما جاء دوري في الحديث بالجلسة تعمدت ألا أطلب أي مطالب مادية، وخاصة بعد المشادة التي حدثت بين رئيس الوزراء وبين نقيب البيطريين سامي طه، بسبب رفض هشام قنديل الاستجابة لمطلب مادي لنقابته، وارتفاع نبرة صوت رئيس الوزراء بشكل غير معروف عنه قائلا إنه لن يستجيب لأي مطالب فئوية.

وقمت بعرض مشاكل النقابة مع بعض الأراضي التي تم سحبها منها، مثلما حدث مع أرض لمصيف للصحفيين  بمنطقة بالوظة ببورسعيد تم دفع قيمتها لكنها دخلت في مشروع شرق التفريعة، وأرض بطريق القاهرة السويس كانت مخصصة لناد اجتماعي للصحفيين،  قامت شركة مدينة نصر للإسكان ببناء مشروع سكني عليها لمجرد التأخر عن دفع قسط واحد من الثمن،  وأرض لناد للصحفيين بالإسكندرية تفرض الأملاك عليها عوائد باهظة رغم عدم استغلالها، وتعثر المدينة السكنية للصحفيين بالسادس من أكتوبر، فقاطعني هؤلاء الممتعضين قائلين بصوت عال: “كل دي أراض عندكم”!

المصدر : الجزيرة مباشر