الرابح والخاسر من صفقة الدجاج البرازيلي المجمد

الدجاج المجمد على حساب دجاج المزارع الملحي

اجتاحت شحنة دواجن مجمدة رخيصة الثمن، مستوردة من البرازيل، السوق المصرية، ودشنت وسائل الإعلام المصرية المرئية والمقروءة ووسائل التواصل الاجتماعي حملة إعلامية وإعلانية موجهة، موحدة النص والمضمون، تبالغ في الدعاية لجودتها وانخفاض سعرها بنسبة 30% عن سعر الدواجن المحلية، وترشد المواطنين إلى أماكن بيعها، وتحثهم على شراء المنتج البرازيلي من متجر بعينه هو صن مول المملوك لجهاز الخدمات العامة، ثم أعلنت بعد ذلك عن وجودها في فروع شركة النيل للمجمعات الاستهلاكية وجمعيتي وفروع شركتي المصرية والعامة لتجارة الجملة، المملوكة للشركة القابضة للصناعات الغذائية التابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية، ومنافذ بيع المواد الغذائية التابعة للقوات المسلحة والشرطة.

وكذلك شاركت الحكومة في الحملة الإعلانية، من خلال المتحدث باسم مجلس الوزراء، الذي دافع عن جودة الدواجن البرازيلية الفائقة كما لو كانت منتجا مصريا لإحدى الوزارات المصرية التي يتحدث باسمها، أو ملحقا زراعيا في السفارة البرازيلية بالقاهرة، وقال في مداخلة هاتفية مع الإعلامي أحمد موسى في برنامج على مسؤوليتي المذاع عبر قناة صدى البلد، إن الحكومة جلبت الدواجن المجمدة من الدولة رقم واحد في العالم، وإنها تخضع لكل الاختبارات المعتمدة من هيئة سلامة الغذاء المصرية، وإنها تلبي كل المواصفات التي تضعها الجهات المختصة وتقوم بفحصها الجهات المصرية.

وأشاد بسعرها المنخفض، وقال إن الدواجن المجمدة تباع بسعر أقل من الدواجن البلدية وإن الحكومة لا تتربح منها. ورغم أنه لم يكشف عن الجهة الحكومية المستوردة، فقد أعطت دعايته الدجاج البرازيلي صك “الاستيراد بضمان حكومي” لكسب الثقة في المنتج الأجنبي الذي تحيط به الشبهات من كل جانب، وأعطت في نفس الوقت رسالة سلبية غير مباشرة عن الدواجن المحلية باعتبارها أقل في الجودة وأعلى في السعر، وهذا غير صحيح لأن الدجاج المبرد أجود في الغالب من المجمد، لذلك يكون سعر الأخير أقل من نصف سعر المبرد، كما أن المنتجين المصريين والتجار يتربحون من بيع الدواجن المحلية، وهم الذين يعانون خسائر مضاعفة بسبب احتجاز الأعلاف بالموانئ وإغراق السوق المحلي بالدواجن المجمدة.

ولم تكتف الحملة الإعلانية الرسمية بكيل المديح للدواجن البرازيلية على حساب المحلية، بل نالت من الدواجن المحلية، وقالت إن سعرها مبالغ فيه، وادعت أن ارتفاع أسعارها إلى أكثر من 90 جنيهًا للكيلوغرام يرجع لأسباب غير مبررة، واتهمت التجار بالجشع. وأنكر الإعلاميون المقربون من النظام بشجاعة منقطعة النظير، مخاطر استيراد الدواجن المجمدة على صناعة الدواجن الوطنية ومسؤوليتها عن تدمير البقية الباقية من المنتجين المصريين المستمرين في دولاب العمل رغم الخسائر والمعاناة من شح الأعلاف وغلاء سعرها.

واستمرت الحملة أيامًا متعمدة غض الطرف عن الأسباب الحقيقية لأزمة الدواجن وهي ارتفاع أسعار الأعلاف أكثر من أي دولة أخرى في العالم، وهو ما دفع المربين إلى إعدام الكتاكيت أمام كاميرات وسائل الإعلام التي نقلت الفضيحة إلى كل الكرة الأرضية. الأغرب من ذلك أن بعض الوسائل “الإعلانية” ادعت في صلف أن صفقة الدواجن المجمدة كانت لها إيجابيات أدت إلى تراجع أسعار الدواجن المحلية، وهم يعلمون أن التراجع كان بتدخل الحكومة لخفض الأسعار بالضغط على “السماسرة” للنزول بالسعر إلى أقل من حد التكلفة، مما أدى إلى توقف 50% من مزارع التسمين والأمهات والجدود وفق ما كشفه اتحاد منتجي الدواجن، وهو ما سيحتاج إلى سنوات لإعادة بناء وتشغيل المنظومة من جديد، خاصة مزارع الأمهات والجدود.

الدواجن صناعة استراتيجية

تعتبر الحكومات الدواجن صناعة استراتيجية وإحدى مكونات الأمن القومي، لذلك تدعم معظم الدول منتجي الدواجن الوطنية بما لا يقل عن 25% من تكلفة الإنتاج، وفي نفس الوقت تفرض رسوما جمركية على الواردات لحماية المنتج المحلي من مخاطر الإغراق. وعلى سبيل المثال، تفرض البرازيل التي استورد منها المصدر الحكومي المجهول رسوما جمركية على الدواجن المستوردة مقدارها 45%، وتفرض مصر 30%. والدواجن من أهم مقومات الأمن الغذائي حول العالم، فهي أقل مصادر البروتين الحيواني تكلفة مقارنة بغيرها، فإنتاج كيلوغرام واحد من لحوم الدواجن يحتاج إلى 2 كيلوغرام من الأعلاف في المتوسط، في حين يحتاج إنتاج الكيلوغرام من لحوم الأبقار إلى حوالي 7 كيلوغرامات من العلف.

أما إنتاج كيلوغرام واحد من بيض المائدة فيحتاج إلى 5 كيلوغرامات من العلف. وهي أرخص بروتين حيواني في مصر منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث فتح يوسف والي، وزير زراعة مبارك، الباب واسعا للاستثمار فيها، وتوسع في إصدار تراخيص بناء مزارع الدواجن على الأراضي الزراعية الخصبة، وقد كان الأفضل للزراعة أن يتم البناء في الظهير الصحراوي للحفاظ على رقعة الأراضي الزراعية التي لا تعوض بثمن.

وكان البناء في الظهير الصحراوي الأفضل للصناعة أيضا بعيدا عن الكتل السكانية حتى يمكن تحقيق مسافات الأمان الحيوي بين بعض المزارع وبعضها وبينها وبين المجازر ومصانع الأعلاف ومحلات بيع الدواجن لمقاومة الأمراض وتقليل استهلاك الأدوية البيطرية والحد من نسبة نفوق الدواجن داخل عنابر التسمين وبالتالي تقليل تكاليف الإنتاج وتخفيض سعر بيع المنتج النهائي من البيض والدواجن للمستهلك.

وبعد أن شجع بناء مزارع الدواجن، أهمل يوسف والي برامج التحسين الوراثي للقطاع الداجني البلدي، وتعمد تدمير مشروع البتلو الذي نجح في توفير اللحوم الحمراء محليا بأسعار مناسبة لعموم الأسر المصرية، وأهمل مشاريع تنمية الثروة السمكية، التي انتهت في قبضة الجيش الذي استولى على مزارع الأسماك والجمبري والمصايد والبحيرات بعد سنة 2013، فكانت النتيجة أن أسعار اللحوم البلدية والأسماك المحلية ارتفعت وأصبحت فوق طاقة المواطن المصري الذي اضطر إلى شراء الدواجن البيضاء، ولذلك يطلق عليها في مصر بروتين الغلابة، وفي البداية كان يدخلها إلى البيت سرا وعلى استحياء باعتبارها طعام الفقراء، ثم أصبحت حلم كثير من الأسر التي انتهى بها المطاف إلى شراء أقدام وهياكل الدواجن التي روج لها النظام أيضا بعد أزمات متكررة في الدواجن.

وهي إحدى الصناعات القليلة التي نجحت مصر في الاكتفاء الذاتي منها، وإن كان اكتفاءً ظاهريا، حيث تستورد مصر 75% من مكوناتها الخام من الخارج، وخاصة من الولايات المتحدة، في صورة ذرة صفراء وفول صويا وأدوية بيطرية. ووفقًا لبيانات وزارة الزراعة، فإن إنتاج مصر من الدواجن وصل إلى نحو 1.4 مليار طائر، وحقق إنتاج البيض حوالي 14 مليار بيضة سنويا.

وهي إحدى الصناعات المشغلة للأيدي العاملة المباشرة وغير المباشرة، وتستوعب نحو ثلاثة ملايين عامل، يعولون حوالي 13 مليون مواطن، ويبلغ حجم الاستثمارات السنوية بها نحو 200 مليار جنيه، منها 150 مليار لاستيراد الذرة الصفراء وفول الصويا فقط، فضلًا عن الاستثمارات الموزعة على الأصول الثابتة، التي تضم 38 ألف منشأة داجنة، منها المزارع ومصانع الأعلاف والمجازر، ومنافذ بيع منتجات الدواجن، ومستلزمات المزارع، والأدوية البيطرية واللقاحات.

وهي من أهم الصناعات جذبا للمستثمرين لسرعة دوران رأس المال بمعدل دورة كل شهر ونصف، وفي دولة كثيفة السكان مثل مصر، تعتبر سوقا ضخما لاستهلاك الدواجن، علاوة على وجود بنية تحتية تعليمية وبحثية خرّجت متخصصين في مجال رعاية وتغذية الدواجن وعلاج الأمراض الداجنة، وأكسبت المربي المصري خبرة كبيرة في إنتاج الدواجن. هذه المقدرات والقدرات الوطنية تستلزم دعمها وحمايتها من العبث والإغراق.

الأسباب الحقيقة للأزمة

ارتفاع أسعار الدواجن لا يرجع إلى تربح المنتجين ولا إلى جشع التجار كما تدعي الحكومة ونوافذها الإعلانية. فقد تلقت صناعة الدواجن ضربة قاتلة برفض الحكومة الإفراج عن أعلاف الذرة الصفراء وفول الصويا المحتجزة بالموانئ، منذ مارس/آذار 2022، رغم عرض أصحابها سداد ثمنها بالدولار. وأصدر البنك المركزي قرارا يسمى “الاعتمادات المستندية” في شهر فبراير، ويعني أن البنك المركزي وحده، وليس المستورد، هو المسؤول عن توفير ثمن الأعلاف بالدولار. وكانت النتيجة أن البنك لم يوفر الدولار ولم يسمح للمستوردين بتوفيره من السوق المحلي. ومنذ شهر أغسطس/ آب الماضي، واتحاد منتجي الدواجن يستغيث ويحذر الحكومة من شح الأعلاف ومن تعمد رفض الإفراج الجمركي عنها من الموانئ.

وتسببت الأزمة في ارتفاع أسعار الأعلاف من 8500 جنيه للطن في بداية العام، لتصل إلى 24000 جنيه، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الدواجن من 35 جنيهًا للكيلو إلى 90 جنيهًا، وكذلك ارتفاع أسعار طبق بيض المائدة ارتفاعًا كبيرًا بالسوق المحلية من 35 جنيهًا إلى 120 جنيهًا. وتسبب نقص الأعلاف في إرغام المنتجين على إعدام الكتاكيت والتخلص من الجدود والأمهات وهي العمود الفقري للصناعة. وكان يمكن أن ينعش السماح بالإفراج عن الأعلاف المحتجزة في الموانئ، هذه الصناعة التي تصارع الموت.

ذلك ما دعا أرباب الصناعة إلى اتهام النظام بتعمد تدمير الصناعة الوطنية الناجحة، إذ لا يعقل أن تكون الدواجن المستوردة أرخص من المحلية، وإلا فلماذا تهتم الدول بالإنتاج المحلي والتصدير؟! ولا يعقل أن يكون استيراد صفقة الدواجن من البرازيل، الذي يستغرق 5 أسابيع في المتوسط، أسرع من الإفراج عن الأعلاف المحتجزة في الموانئ المصرية التي يمكن أن تصل إلى مزارع الدواجن خلال يوم واحد! ولا يعقل أن تنكر الدولة وجود الدولار عند الحاجة لاستيراد الأعلاف اللازمة للمنتج الوطني ثم يتوفر بسخاء عند استيراد الدواجن الأجنبية؟!

لخّص أحدهم على مواقع التواصل الاجتماعي خطورة استيراد الدواجن بقوله، “عبقرية تحطيم الوطن والمواطن.. ازاي تدمر صناعة محلية في 7 خطوات؟ بسيطة!! احجز الأعلاف في الموانئ 6 شهور.. قول مفيش دولار عشان نفرج عن البضائع.. دع سعر العلف يتضاعف وبعدين يختفي خالص.. تجار كتير تخرج من المنظومة ومزارع كتير تقفل ويتم إعدام الكتاكيت.. وبيوت تتخرب ويوصل العجز في الثروة الداجنة 50% بعد اكتفاء ذاتي دام سنوات.. سيب الأسعار توصل لأربع أضعاف.. اظهر بدور المُنقذ اللي مفيش منك اتنين واستورد بالدولار اللي مكانش موجود وبيع لحسابك.. وطبعا الناس هتاكل المجمد بدل رجول الفراخ، ولا هتسأل على صلاحية ولا جودة ولا مذبوحة طبقا للشريعة الإسلامية ولا أي حاجة”.

علاج أزمة الدواجن

الرابح من استيراد الدواجن هو الدول المصدرة، مثل البرازيل وغيرها، والفئة القليلة المتربحة من قوت الغلابة التي لا تدفع الرسوم الجمركية. أما الخاسرون فهم النظام لدى طبقات الشعب الغاضبة، وملايين العاملين في صناعة الدواجن، في التربية والإنتاج والتسويق وتجارة الأعلاف والأدوية البيطرية والمجازر والنقل والتوزيع. وكذلك الفلاحون من منتجي اللحوم الحمراء والأسماك الذين يعانون من زيادة تكلفة الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف وبوار تجارتهم بعد انصراف المستهلكين لشراء الدواجن المجمدة التي لن تستمر رخيصة طوال الوقت، بل سترتفع أضعافا مضاعفة بعد الإجهاز على الصناعة الوطنية.

المشكلة الأساسية في صناعة الدواجن في مصر حاليا على الأقل هي ارتفاع سعر الأعلاف وخاصة الذرة الصفراء التي أصبحت تمثل 60% من تكاليف إنتاج الدواجن، وتباع في مصر بضعف السعر العالمي تقريبا بسبب الفساد، فرغم أن سعرها في السوق الدولية حاليا في حدود 320 دولارا للطن شاملا تكاليف الشحن، وهو ما يعادل 9600 جنيه مصري للطن، فقد وصل سعرها في مصر إلى أكثر من 15000 جنيه للطن! وتستورد مصر منها 10 ملايين طن بتكلفة 3.2 مليارات دولار، أي حوالي 96 مليار جنيه، ولولا الفساد لانخفضت أسعار الدواجن إلى النصف، ولأصبح سعرها في متناول الفقراء الذين لا يملكون ثمن اللحوم الحمراء، ولحقق المربي هامش ربح يشجعه على الإنتاج طوال العام، ولاستوعبت الصناعة مزيدا من الشباب الذين يعاني 13 مليون منهم البطالة. وزير التموين السابق، باسم عودة، كان قد دشّن بروتوكولًا للاكتفاء الذاتي من الذرة الصفراء لحل أزمة الأعلاف بالاشتراك مع اتحاد منتجي الدواجن ووزارة الزراعة، لكنه توقف بعد 2013.

المصدر : الجزيرة مباشر