حين تقرر النساء الرحيل

العرض الأول لفيلم "Women Talking" في المملكة المتحدة - الدورة 66 لمهرجان لندن السينمائي

صنعت “نوار هيملت”، بطلة مسرحية الكاتب النرويجي هنريك إبسن “بيت الدمية”، أشهر صفقة باب درامية عرفها المسرح الأوربي، صفقة رجّت أركان المجتمع البرجوازي حينها، وزلزلت قيم الزواج التقليدي السائد في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. حين أغلقت نورا الباب تاركة وراءها زوجها وأولادها، بحثا عن ذاتها المطموسة بين طيات أفكار زوجها ورؤيته القاصرة لها، فتحت أبوابا أمام بنات جنسها ليسرن على دربهن الخاص في محاولة لصنع مسار مختلف عن المسار الذي يحدده الزوج والمجتمع والقوالب التي سجنت فيها النساء طويلا بغير إرادة منهن وفقا لتقاليد بالية كانت نتاج المجتمع الذكوري المتحكم فيها، نساء اليوم يتأملن بعمق موضعهن في العالم ومكانتهن في محيطهن ومدى ملاءمة ذلك لهن.

“نورا ” لم تكن مجرد بطلة مسرحية لكاتب شهير موهوب لديه رؤية مستقبلية عن المجتمع ومآلاته، بل أصبحت رمزا للمرأة الرافضة لواقع فرض عليها لأسباب متعددة: تمييز من قبل الأب، عنف زوج، تنمر زميل عمل، أو تحرش رجل عابر. إلخ.

(2) من بيت الدمية إلى حديث النساء

يقدم لنا الفيلم الأمريكي Women Talking المنتج في 2022 والمرشح لجائزتي أوسكار لهذا العام إحداهما جائزة أفضل فيلم، صفقة باب أخرى، هذه المرة النساء لا ينتمين إلى مجتمع برجوازي مثل نورا في بيت الدمية، لكن إلى مجتمع ديني متزمت يعيش طبقا لتقاليد القرن التاسع عشر، مجتمع طائفة المينونايت، وهي جماعة بروتستانتية هربت من الاضطهاد الديني في أوروبا في القرن التاسع عشر لإنشاء مجتمعات معزولة في أمريكا اللاتينية وأماكن أخرى. تشير التقديرات إلى وجود حوالي 1.5 مليون منهم في جميع أنحاء العالم. إنهم يتبعون تعاليم مينو سيمونز، وهو زعيم إصلاحي بروتستانتي هولندي راديكالي عاش في القرن السادس عشر.

تجنب مستعمرات المينونايت جميع أشكال الحداثة: الكهرباء، السيارات، الهواتف، الموسيقى والتلفزيون… إلخ، ويعيشون في مجتمعات زراعية بسيطة جدا تعيش على الزراعة وتربية الدجاج والأبقار، وترتدي النساء فيها الملابس المحتشمة الطويلة وغطاءً للرأس ويجدلن شعورهن. وتعود جذور هذه المجتمعات إلى هولندا وسويسرا وألمانيا، الفيلم مأخوذ من رواية للكاتبة الكندية “ميريام تويوز” تحمل نفس الاسم ويتناول واقعة حقيقية حدثت عام 2009 في بوليفيا في أحد مستعمرات المينونايت، وكاتبة الفيلم ومخرجته “سارة بولي” أعربت منذ بداية الفيلم عن أنه نتاج خيال أنثوي، والفيلم عبارة عن جدال بين ثلاث عائلات نسائية من أجيال مختلفة تعرض فيها النساء الوضع القائم والاختيارات المتاحة والعقبات أمام كل اختيار حتى يصلن إلى قرار بالمغادرة الجماعية للمستعمرة.

(3) اغتصاب جماعي ومطالب بالغفران

الفيلم مأخوذ من أحداث حقيقية وقعت في أحد مستعمرات المينونايت في شرق بوليفيا، حيث تم القبض على ثمانية رجال واستجوابهم حول عشرات من حالات الاغتصاب التي يصل عدد الضحايا فيها إلى 300. الرجال الثمانية اتهموا بإساءة معاملة النساء واغتصابهن وكذلك الأطفال من الجنسين. وتتراوح أعمار ضحاياهم من فتيات في الخامسة من العمر إلى نساء في سن 65. هؤلاء الرجال قاموا على مدى أربع سنوات أو أكثر برش مخدر لحيوانات المزرعة في غرف نوم الزوجات والبنات والأمهات النائمات واغتصابهن، وبعد ذلك تم تفسير الأمر بأنه من عمل الشيطان وخيال النساء المريض وهلاوسهن. في النهاية تم القبض على سبعة من الجناة وإدانتهم، لكن يمكن القول إن جميع سكان المستعمرة من الذكور كانوا متواطئين في غض الطرف ومطالبة النساء بالتغاضي والغفران حتى لا يخرجن من جنة الرب.

الفيلم يعيد كتابة الواقع بخيال أنثوي، لما كان يجب أن يكون عليه الأمر، حيث تقدم نساء المزرعة ثلاثة اختيارات للتصويت عليها: البقاء في المستعمرة وعدم القيام بأي شيء على الإطلاق والغفران والتسامح، أو مقاتلة الرجال ودفاع النساء عن حقوقهن بالقوة، أو مغادرة المجتمع. وكانت نتيجة التصويت استبعاد البقاء والغفران وتعادل الأصوات بين القتال والمغادرة، وتم تفويض عدد من النساء لمناقشة الأمر والوصول إلى قرار جماعي، فناقشن تداعيات الوحشية التي تعرضن لها ومخاوف المغادرة إلى المجهول وهن لا يعرفن أي شيء عن خريطة المكان الذي يعشن فيه وما ينتظرهن خارجه، فجميعهن أميات إذ لم يكن يسمح لهن بالتعليم في المستعمرة فهو حق قاصر على الذكور، وفي نفس الوقت ناقشن فكرة البقاء وقتال الرجال، ليصلن في النهاية إلى اقتناع بأن ذلك لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف تجاههن وسيعرض عقيدتهن الدينية التي تؤمن بالسلام إلى الكفر بها.

رغم أن أحداث الفيلم محدودة فهو أقرب إلى المسرحيات الحوارية بين النساء، إلا أنه رغم محدودية المكان التي تجري فيه المجادلة، لا يصيبك بالسأم بسبب حيوية النقاش. في النهاية كان القرار الجماعي هو مغادرة المستعمرة مصطحبين معهن أولادهن من الذكور ممن هم دون الخامسة عشرة من العمر. الفيلم لا يمس أوضاع المرأة في مستعمرة المينونايت فقط بل في العالم كله، فالمرأة ما زالت تتعرض للتحرش والاغتصاب والتمييز، في دول العالم الثالث والمجتمعات الدينية المغلقة كما هي الحال في العواصم الكبرى.

(4) المرأة ضحية الاغتصاب وليست سببا فيه

فيلم “حديث النساء” ينفي نفيا قاطعا ما يردده بعض الرجال والنساء، من أن سبب جرائم التحرش والاغتصاب هو مظهر المرأة المثير وملابسها غير المحتشمة أو الوجود في مجتمع فاسد يساعد على الرذيلة؛ فهذه الدعاوى الكاذبة تتهاوى في مجتمع المينونايت المتدين المغلق حيث إن النساء فيه محتشمات ومتدينات جدا والمجتمع بعيد عن المدنية الحديثة، وسيلة الترفيه الوحيدة المتاحة فيه هي الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد. ورغم ذلك تعرضت النساء للعنف والاغتصاب، وهو ما يضطرنا إلى مراجعة تفكيرنا حول أوضاع المرأة وسلوك الرجل، ويحتاج إلى حوار مجتمعي للوصول إلى قوانين حكيمة وحازمة لحماية المرأة وسلامة المجتمع، حتى لا تضطر النساء يوما ما إلى الرحيل، وإذا غادرت النساء مجتمعا فستتهاوى أعمدته فهن وتد الخيمة.

المصدر : الجزيرة مباشر