تأخير قضاء رمضان أكثر من عام

احتفالات القاهرة بقدوم شهر رمضان المبارك

فرض الله الصوم على من تتوافر فيه شروط معينة من المسلمين، حددها الشرع الإسلامي، بأن يكون بالغا، وصحيح البدن، ومقيما غير مسافر، وإضافة إلى ذلك اشترط في وجوب الصوم على المرأة أن تكون خالية من الحيض والنفاس. ورخص لمن له عذر بالفطر، على أن يقضي بعد انتهاء شهر رمضان ما فاته من الأيام التي أفطرها بعذر، أو بدون عذر، فهي ديون عليه لله تعالى، وكثير من الناس يكون على نية القضاء، ومن هؤلاء النساء اللائي يفطرن لعلة الدورة الشهرية، أو النفاس، وهي أعذار قهرية لا حيلة للمرأة فيها.

أسئلة تتكرر قبل رمضان

وبعد انتهاء رمضان، تشغل الإنسان شواغل الحياة، وربما ينسى الدَّين الذي عليه، نظرًا إلى أن شهور السنة بعد رمضان يمكن الصوم في أيّ منها، ولأن من طبيعة الإنسان ما دام ليس مجبرا على وقت معين، أن يظل الاختيار يمثل بحبوحة له، فإنه ربما يتراخى أو ينسى حتى يُفاجأ بأن شهر شعبان قد أتى، واقترب من الانتهاء وعليه -أو عليها- أيام من رمضان الماضي، بل يدهمه رمضان نفسه بالقدوم، وعليه ديون من صوم رمضان الماضي، ويكثر السؤال هنا: ماذا نفعل؟ وهل نطعم عن الأيام التي لم نصمها، أم نرجئ القضاء إلى ما بعد رمضان؟ وإذا أجلنا القضاء في هذه الحالة، هل يكون علينا قضاء الأيام التي أفطرناها من قبل، وعلينا فدية أو كفارة أم لا؟ كل هذه تساؤلات تكثر في هذه الأيام.

توسعة الشرع في رفع الحرج

وأول ما نبدأ به الإجابة عن هذه التساؤلات، هو أن الشرع لم يشدد في وقت قضاء رمضان، بل جعله متاحا طوال العام، ومتروكا للإنسان أن يفعله في أيّ شهر، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بعبارة تكثر في كتبهم حول بعض العبادات: هل أداء هذه العبادة أو قضاؤها على الفور أو على التراخي؟ يعني هل المطلوب أن تُؤدَّى فورا، ولا تأخير فيها، أم يُترَك للإنسان أداؤها أو قضاؤها وقتما يتيسر له ذلك، ما دام حيا، وإن مات فقد كان على نية الأداء أو القضاء؟

من هذه العبادات: فريضة الحج، وقضاء رمضان، فقد اختلف الفقهاء في ذلك، وبناء على اختلافهم جاءت هذه التوسعة، فالحج فريضة افترضها الله على من استطاع سبيلا، فهل كل إنسان توفر له المال والصحة، مطلوب أن يحج فورا؟ اختلفوا في ذلك، فمنهم من أوجبه فور توافر شروطه، ومنهم من جعله على التراخي، أي: متروك لتقدير الإنسان، ما دام على نية الفعل، وكذلك في قضاء رمضان نفس الخلاف، فمن الفقهاء من أوجبه فور الانتهاء من رمضان، فأوجب أن يبدأ من عليه القضاء صوم ما عليه فيما عدا العيدين وأيام التشريق، ومنهم من جعله على التراخي، أي أنه متروك للإنسان قضاؤه طوال العام، فأمامه أحد عشر شهرا يقضي فيها وقتما تيسر له.

عائشة وتأخير القضاء إلى شعبان

وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها، ممن يؤخر القضاء حتى يأتي شهر شعبان، وذلك لشواغل تشغلها في حياتها الزوجية والعامة، فقد روى البخاري في صحيحه أن عائشة رضي الله عنها قالت: “إن كان ليكون عليّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان”.

وقد حاول بعض شراح الحديث أن يبينوا علة تأخير عائشة للقضاء حتى شعبان، بأنها كانت مشغولة برسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في أموره الحياتية الخاصة، أو بأسفاره ومغازيه، والحقيقة أنها حجج لا تخلو من وهن عند الاستدلال، فما يتبقى من السنة بعد رمضان هو أحد عشر شهرا، فهل كانت مشغولة طوال العام؟ ولم تكن الزوجة الوحيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك أخريات من أمهات المؤمنين يشاركنها، سواء في القيام بمهام البيت، أو السفر في الغزوات وغيرها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرع بينهن في السفر والغزوات.

فقول عائشة: “فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان”، لا يدل على عدم استطاعة بدنية، أو مشاغل، بل لما يصيب الإنسان من شواغل الحياة، بوجه عام، ولا يعني ذلك نفينا لما حاول بعض الشراح قوله، لكنه لا يصلح حجة دائمة، وإخراج للحديث عن مضمونه، وهو أن عائشة كانت تؤخر القضاء، لأنها فهمت من الشرع التوسعة في الأمر، وأنه متروك لاختيارها توقيت القضاء بما يناسبها.

ماذا يفعل من أخّر قضاء رمضان؟

ومن أخّر قضاء ما عليه من رمضان، تحدث الفقهاء فيما يفعله، وجعلوا له حالتين، حالة من أخّر رمضان إلى شعبان، أي لم يأت رمضان آخر عليه، ومن أخّره حتى مر أكثر من عام، بأن جاء رمضان آخر ولم يقض، فاختلف الفقهاء هنا، فالجمهور على أن من قضى ما عليه من رمضان قبل دخول رمضان آخر، فلا شيء عليه، واختلفوا فيمن أخّر بعذر أو بدون عذر، فقالوا عمن أخّره بعذر لا إثم عليه، ومن أخّره بغير عذر فقد أثم في التأخير لهذا التوقيت. فإذا أخّره لما بعد رمضان، فالجمهور (المالكية، والشافعية، والحنابلة) على أنه يقضيه بعد رمضان الثاني، وعليه مع القضاء أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا يوجد نص في استدلالهم، إلا أقوال لبعض الصحابة رضي الله عنهم.

تيسير الأحناف في المسألة

ولكن الأحناف وبعض الفقهاء كان لهم رأي آخر غير رأي الجمهور، فقد رأوا أن من كان عليه قضاء أيام من رمضان الماضي، وجاء رمضان التالي، سواء كان تأخيره القضاء بعذر أو بغير عذر، أو أفطر في رمضان الماضي بعذر أو بغير عذر، فلا يقضي سوى الأيام التي أفطرها فقط، ولا فدية ولا إطعام عليه، والحقيقة أن دليل الأحناف أقوى، فقد استدلوا بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184)، فالله عز وجل قال: {فعدة من أيام أخر} بإطلاق من غير قيد، ولو كان هناك حكم آخر يضاف إلى القضاء لبينه الله، أو رسوله صلى الله عليه وسلم.

كما أنهم بنوا رأيهم على أن الإنسان مخيّر في وقت قضاء دين رمضان، وليس ملزما بوقت معين، فهو دين عليه يقضيه، وليس ملزما إلا بالدين الذي عليه، وهو الصوم، ولم يفعل ما يوجب عليه أن يطعم أو يفدي، وليس هناك دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على ذلك، وهو ما رجح من أدلة في المسألة. والأفضل للإنسان التعجيل بقضاء ما عليه من صوم، إلا أن تأخره في القضاء، لا يلزمه بغير صيام الأيام التي أفطرها، ولا كفارة عليه.

المصدر : الجزيرة مباشر