أفغانستان كما رأيت 4/4 “نهاية طالبان”

 

اختار وفد التفاوض الممثل لحركة طالبان اسم الإمارة الإسلامية بأفغانستان عنوانا لدولتهم بعد رحيل الاحتلال، وحاول الأمريكان إغراءهم للتنازل عن هذا الاسم فرفضوا، وبذلك أصبح الجلاء هو الخط الفاصل بين مرحلة الحركة ومرحلة الدولة.

قبل التحرير كانت طالبان جماعة مجاهدة وحركة تحرر وطني تُمثل المقاومة، وبعد التحرير انتقلت إلى مرحلة الدولة بهيكلها ومؤسساتها، ولاحظت خلال زيارتنا لأفغانستان اختفاء مصطلح طالبان، فلم أسمعه من مسؤول أو أطالعه على ورقة أو جدار، بل علمت أن ثمة حساسية في استعماله الآن، وأن الإمارة الإسلامية هي عنوان القوم وشعار المرحلة.

خلال الزيارة التقينا عشرة من وزراء الحكومة، ونائبَي رئيس الوزراء، وكان اللقاء الأول مع الملا عبد الغني برادر نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وحضر معه عدد من الوزراء، وأول ما لفت نظري أن مدير مكتبه الذي استقبلنا، وتولى الترجمة لنا، شاب يجيد اللغة العربية اسمه عبد الله عزام، ولما أبديت دهشتي من الاسم المركب، إذا بآخر يقول “وما العجب؟ أنا ابن أخي اسمه عمر عبد الرحمن”، فعلمت أن جيل المجاهدين الآباء، أرادوا توريث أبنائهم أسماء العلماء المجاهدين الذين شاركوهم الجهاد الأول ضد الغزو الأحمر، وكنت محظوظا بأزهريتي، والإرث الذي تركه شيوخي وسلفي، فقد وجدت كلمة مولانا الشيخ يوسف القرضاوي ما زال صداها يتردد في الآذان، عندما قابل وفد طالبان في فترة التفاوض، وقال لهم “أنا منكم وأنتم مني”.

مع الملا عبد الغني برادر ومعه وزير الاستخبارات ووزير الاعلام

مع المولوي عبد السلام حنفي

وفي زيارة المولوي عبد السلام حنفي، وهو نائب رئيس الوزراء للشؤون الإدارية، استقبلنا في قصر من قصور الحكم الملكية العتيقة، وهو غاية في الروعة المعمارية والفنية، وأعظم ما يزينه خُلق من يقيم فيه وتواضعه، حيث غمرنا فضيلة المولوي عبد السلام بمشاعر فياضة، وتواضع جم، وحديث ثر، يدل على سعة علم الرجل وواسع ثقافته، وهو من عرق الأوزبك بما يؤكد أن قيادات الإمارة من كل الأعراق الأفغانية.

وأول مَن التقينا مِن الوزراء كان وزير الخارجية أمير خان متقي، في جمع من معاونيه، وبعد انتهاء اللقاء قال لي أحدهم “أنا من أبناء الأزهر الشريف وتخرجت في كلية اللغة العربية”، ومع تكرار هذا المشهد في أي محفل عام أو بلد أزوره -بما يؤكد القوة الناعمة للمؤسسة الأزهرية- لكنني ما توقعت أن أجد هذا في قادة الإمارة الإسلامية بأفغانستان!

وفي اليوم التالي كانت زيارتنا لوزير الداخلية سراج الدين حقاني، نجل الإمام جلال الدين حقاني رمز العلم والجهاد في أرض الرباط، واستمر اللقاء نحو ساعتين أظهر فيهما الوزير حفاوته الرسمية، الممزوجة بنسبته إلى الرمز العلمي والمدرسة الحقانية، فأشعرنا بأننا ضيوف والده في مكتبه، ولما قمنا للصلاة واحتاج فضيلة الشيخ عبد الحي يوسف إلى كرسي يجلس عليه، بادر الوزير فأحضره بنفسه إجلالا وإكبارا.

وكانت زيارة عمه المجاهد خليل الرحمن حقاني وزير المهاجرين أكثر لقاءاتنا أريحية، وتعامل معنا وكأنه يعرفنا من زمن بعيد، وعندما حضرت الصلاة خرجنا معه إلى مسجد داخل محيط الوزارة اسمه مسجد محمد الفاتح، وقدّم فضيلة الشيخ محمد عبد الكريم فصلى إماما بالجميع، ولاحظت أن الوزير حوله حراسة من كتيبة البدريين الاستشهاديين، ومع ذلك فسلاحه في يده، وحزام الذخيرة على صدره، مع تقدّم سنه وسابقته، لكنه ما زال يرى نفسه جنديا في الميدان! وكما أن المهاجرين لهم وزارة لأن أعدادهم نحو عشرة ملايين، فإن هناك وزارة للشهداء والمعلولين، التقينا وزيرهم وله طرف صناعي من إصابات الجهاد.

مع خليل حقاني وزير المهاجرين

لقاء مختلف

أما لقاء وزير التعليم العالي المولوي ندا محمد نديم فكان مختلفا عن باقي الزيارات، لأن موضوع تعليم البنات كان حديث كل وسائل الإعلام حينئذ، وهو صاحب قرار الإيقاف المؤقت، ودخلنا الوزارة وفيها وفد من الأمم المتحدة واليونسكو حيث قابلنا بعدهم، وعلمنا أنه من القادة الميدانيين الذين لهم مواقف مشهودة، وأنه قبل تولي الوزارة كان مسؤولا عن مكافحة الخوارج، وتتبّع الدواعش حتى لُقب بقصاب داعش، وعلمنا أن التصريح المنسوب إليه “إننا لن نتنازل عن منع تعليم البنات ولو ضُربنا بالقنابل” غير صحيح والترجمة مكذوبة، وأكد لنا أن المسألة أحيلت إلى لجنة خاصة لتفادي أخطاء منهجية وأخرى عملية أدت إلى الإيقاف المؤقت، وأن التعليم بضوابطه الشرعية حق مكفول للجميع، وأصر على الانتقال إلى مكتب آخر بعيدا عن الرسمية، وكانت جلسة أخوية وحديثا عن العلم والجهاد، وما تخلل ذلك من مواقف وذكريات.

ومن الملاحظات العامة على الزيارة، أن التواضع مع المؤمنين، هو الوجه الثاني للعزة على الغزاة والمحتلين، وأن العالِم العامل “الرباني” لا يُتقدَّم عليه بقول أو فعل، ولا يسامي مكانته أحد، وأن جيل الشباب الحالي تعلّم في تخصصات مختلفة، ويجيدون لغات عدة، والأمر نفسه مع من كانوا في معتقل غوانتانامو، حيث اعتبروها فترة إعداد فتعلّموا اللغات المختلفة، وانفتحوا على الثقافات المتعددة، ولمسنا فيهم خبرة واعية وتجربة مصقولة، نأمل أن تسهم في نهضة أفغانستان ونجاح تجربتها.

كان أسعد الوفد بالزيارة فضيلة الشيخ سامي الساعدي أمين لجنة البحوث بدار الافتاء الليبية، لما له من فضل السبق ومقام الصدق، وخلاصة القول في هذه الزيارة حدده د. نواف تكروري رئيس هيئة علماء فلسطين بقوله “رأينا خيرا غالبا، وخللا كعادة تجارب البشر، ورغبة عند القوم في الإصلاح واستعدادا لقبول النصح”.

لقاء مختلف مع وزير التعليم
المصدر : الجزيرة مباشر