مهارات التحليل السياسي: كيف تكتب تقدير موقف؟

 

عديدة هي مستويات الكتابة السياسية، حيث تأخذ صوراً متنوعة، وفق معيار النوع، من بينها: المقالات، التقارير، سواء كانت وصفية أو رصدية أو تحليلية، ثم أوراق السياسات، وأوراق العمل، والأوراق البحثية التي يتم تقديمها للنشر في دوريات علمية أو المشاركة بها في مؤتمرات دولية، وكذلك المشروعات البحثية التي يتم تقديمها للحصول على مؤهلات علمية في المراحل الجامعية أو ما بعد الجامعية.

ومع هذا التعدد وذلك التنوع فإنني أرى، من وجهة نظر شخصية، أن أعقد وأهم وأخطر وأدق مستويات الكتابة السياسية، هو ما يسمى “تقديرات الموقف السياسية” وذلك أمام العديد من الاعتبارات التي تضعها في هذا الموضع، ومن بين هذه الاعتبارات، أن تقدير الموقف يجمع في أركانه كل الوظائف البحثية التي يمكن أن يتصدى لها الباحثون، والتي تتمثل في: الرصد، الوصف، التحليل، التفسير، التنبؤ، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، أن هذه التقديرات ترتبط بمواقف، وفي الأغلب الأعم ترتبط هذه المواقف بأزمات، وأمام ما تتسم به الأزمات من عنصر المفاجأة وما تحمله من تهديد، مع محدودية الوقت اللازم لاتخاذ القرار، وهو ما يزيد من أهمية تقديرات الموقف وأهمية من يقوم بها، أمام خطورة ما قد ينجم عن القرارات التي يتم اتخاذها بناء على هذه التقديرات.

وأمام هذه الاعتبارات، يكون على الباحثين والخبراء والمتخصصين والعاملين في المؤسسات السياسية والأجهزة ذات الصلة بإدارة المواقف والأزمات والصراعات، مراعاة عدد من الضوابط الأساسية عند إعداد تقديرات الموقف السياسية.

ما قبل تقدير الموقف

قبل أن يقع أي موقف سواء كان إيجابياً أو سلبياً تسبقه مجموعة من المؤشرات أو التنبيهات أو التحذيرات التي يمكن الوقوف عليها من الأجهزة الأمنية أو من مركز رصد المعلومات وإعداد قواعد البيانات، أو من وسائل الإعلام أو المراكز البحثية المتخصصة أو غيرها من وسائل تعتمد عليها الدول والمؤسسات في مثل هذه الحالات، التي ترى أن هناك ظواهر أو اتجاهات أو تحولات قيد التشكيل والتكوين، وتقوم ببيان مؤشرات هذا التحول وأسباب الحكم عليه وتقييمه، وبيان الأطراف والفواعل المتداخلة في الموقف، والأوزان النسبية لكل منها، والمتغيرات التي تؤثر فيها والتمييز في إطارها بين المتغيرات الأساسية والمتغيرات الفرعية، والمتغيرات المستقلة والمتغيرات التابعة، في ضوء المعلومات المتوفرة عن الموقف، مع العمل على استكمال المعلومات واستنفار كل الأجهزة ذات الصلة للقيام بدورها في مرحلة ما قبل وقوع الموقف.

انتباه- قبل أن تكتب!!

قبل البدء في كتابة تقديرات الموقف هناك مرحلة تسمى “الإعداد المسبق قبل الكتابة”، وخلال هذه المرحلة من المهم القيام بعدد من الإجراءات الأساسية، منها: طرح كل التساؤلات الممكنة حول الموقف، والسعي نحو الإجابة على التساؤلات في إطار التفاصيل المتاحة، والترتيب المنطقي للأفكار، والشمولية في العرض والتحليل وعدم تجاهل أي معلومة أو أي بُعد من أبعاد الموقف مهما كان وزنه من وجهة نظرك، لأن ما قد تراه غير مهم يكون مهماً للآخرين من فريق إعداد التقدير أو من جانب صانعي القرار الذين سيكون عليهم تنفيذ توصيات التقدير الختامية.

كذلك من المهم في هذه المرحلة تشكيل فرق العمل الاحترافية من الخبراء والمتخصصين والمستشارين مع مراعاة التنوع في الاتجاهات والتخصصات والاهتمامات، لأن كل موقف تكون له العديد من الأبعاد التي يجب الوقوف عليها بمنتهى الدقة وهذا لن يتحقق إلا بوجود فريق عمل متكامل ومتنوع.

لا تقديرات دقيقة دون معلومات دقيقة

أمام محدودية الوقت اللازم لتقدير الموقف، وخاصة في المواقف التي ترتبط بأزمات أو تهديدات أو مخاطر تتزايد أهمية توفر المعلومات الدقيقة أو سهولة وإمكانية الوصول إليها عند حدوث الموقف، وهو ما يتطلب عدة إجراءات، من بينها: وجود قواعد بيانات جاهزة وسجلات للمواقف، استدعاء المعلومات المرتبطة بالمواقف السابقة، استدعاء الخبرات السابقة للتعامل مع تلك المواقف.

مع مراعاة أن السمات الأساسية التي يجب توفرها في هذه المعلومات، أن تكون أكثر دقة وعمقاً، وأكثر موثوقية، وأكثر أصالة، ومن هنا تزداد أهمية وجود شبكات رصد وتصنيف وتبويب وفهرسة وحماية وتأمين، وأجهزة متابعة متخصصة، بجانب الدور الذي تقوم به وحدات المعلومات في الأجهزة الأمنية التابعة للمؤسسات السيادية، مثل: الداخلية والخارجية والدفاع وكذلك المؤسسات الإعلامية الدولية عبر شبكات مراسليها في مختلف المناطق والأقاليم.

وتنقسم المعلومات إلى العديد من الأنواع، منها: المعلومة الموثوقة وتكون محددة المصدر مع مصداقية عالية، وهناك المعلومات المضِللة التي تقف خلفها بعض الأجهزة والهيئات والمؤسسات أحياناً كبالونات اختبار، وأحياناً لنشر الشائعات والإدارة بالشائعات، وأحياناً ثالثة لتشتيت الانتباه عن المعلومات الحقيقية، ثم هناك ما يسمى بالأخبار المنقولة والمتواترة التي لا ترقى لأن تكون معلومة حيث تحتاج إلى تأكيد أو نفي، من مصادر متعددة.

جوهر التقدير الدقيق العصف الذهني الدقيق

من القواعد الأساسية في كتابة تقديرات الموقف السياسية أن أفضل التقديرات هي تلك التي يحدث حولها نقاش عميق ودقيق قبل كتابتها من خلال المتخصصين والخبراء في أبعاد الموضوع، وهو ما يتطلب ضرورة التنوع في الاختصاصات وجمع المتناقضين، والاعتماد الأكبر على أصحاب الخبرات وفقاً لطبيعة كل موقف، على أن تكون عملية العصف الذهني محددة الأهداف، محددة التوقيت، مع ضبط لغة الحوار حتى لا يخرج المشاركون، تحت وطأة ضغط الوقت، عن الإطار المحدد للعملية.

بين استعراض السيناريوهات واختيار الأرجح

يجب على فريق إعداد تقديرات الموقف السياسية أن يقوم برصد كل السيناريوهات المستقبلية المحتملة للموقف أياً كانت نسبة حدوثها، ووضعها أمام متخذي القرار، ولا يجب أن يفترض الفريق أن متخذ القرار لديه علم مسبق بهذه السيناريوهات أو بما يتم تداوله من معلومات، مع تقديم شرح تفصيلي لكل سيناريو ومبرراته والحجج الداعمة له، والعوامل التي قد تعوق تطبيقه، ولا يجب بالمطلق تجاهل أي بديل مهما كانت الاعتبارات أو السياقات التي ترتبط به.

وبعض الرصد والتحليل والتقييم والمقارنة بين كل السيناريوهات، يكون على الفريق ترجيح أحد السيناريوهات المحتملة، وبيان كل من الأسباب والحجج الداعمة للترجيح، وإجراءات التعامل مع هذا السيناريو، وأيضا متطلبات التنفيذ من حيث الإمكانيات والقدرات المادية والبشرية، إضافة إلى التبعات والأضرار والتداعيات التي يمكن أن تنجم عن هذه السيناريو أو البديل الذي تم ترجيحه.

مع التأكيد هنا على فريق إعداد التقديرات، ليس مطلوباً منه فرض هذا البديل على متخذ القرار، لأن الفريق يقوم بالطرح والاختيار في إطار ما لديه من معلومات ومعطيات، وقد يكون لدى متخذ القرار معطيات مغايرة من شأنها أن تعيد النظر في البديل المرجح، بجانب أن متخذ القرار هو من سيتحمل نتيجة قراره وتبعاته وليس فقط الفريق.

ولا يقف دور فريق إعداد تقديرات الموقف السياسية عند إعداد التقدير ورفعه إلى متخذي القررات، ولكن هذا الدور يمتد إلى مرحلة ما بعد التقديم من خلال القيام بعملية تقييم إدارة الموقف، وتسجيل الموقف وتوثيقه، وبيان الخبرات المستفادة وأوجه القوة والضعف والقصور التي ارتبطت بالتقدير إعداداً وتطبيقاً، أو فكراً وحركة، في إطار سياسات نقل الخبرة بين الأجيال لضمان الفعالية في المواقف المستقبلية.

التقدير بين الشكل والمضمون

إذا كانت كل المحاور السابقة تمثل عناصر أساسية ترتبط بمضمون تقديرات الموقف السياسية، فإن هناك مجموعة من الضوابط الشكلية التي لا تقل أهمية عن الضوابط الموضوعية، ومن ذلك أسلوب الكتابة الذي يجب أن يكون بسيطاً وواضحاً ومنسقاً، وأن يكون شديد الإيجاز وشديد التركيز بحيث لا تحتوي الفقرة على أكثر من فكرة، كما يجب أن يكون التقدير مُحدد المعالم لضمان سرعة التعامل معها، وكذلك مراعاة الضوابط اللغوية، حتى لا تكون مثل هذه العناصر مصدراً لتشتيت الذهن عن جوهر التقدير.

المصدر : الجزيرة مباشر