اللغة العربية تعلم المروءة والأخلاق.. لماذا؟!

أثبتت دراسات حديثة أن اللغة تؤثر في سلوك الإنسان، وأسلوبه في التفكير، واتخاذ القرارات، وقدرته على القيادة، حيث يرى عالم النفس الكندي ستيفن بنكر: أن اللغة تزيد قدرة الإنسان على أن يتصرف بذكاء.

إن الكلمات التي تستخدمها تشكل أسلوب حياتك، وتكشف سمات شخصيتك، وتجربتك الإنسانية التاريخية، فعندما تستخدم الألفاظ السلبية التي تثير الخوف من المستقبل، يمكن أن يصيبك الإحباط والقلق؛ فالكلمات التي ترددها بشكل دائم تؤثر في عقلك وقلبك قبل أن تؤثر في الآخرين.

كما أن اللغة تؤثر في أعمالك، ويمكن أن تزيد ضعفك أو قوتك؛ فقد أوضحت دراسة أجراها كيث تشين أستاذ الاقتصاد بجامعة يال أن اللغة الإنجليزية تؤثر في السلوك الاقتصادي مثل معدلات الإنفاق والاستهلاك والتوفير، وتزيد التركيز على الاحتياجات المادية، فتدفع الناس إلى ادخار الأموال لمرحلة ما بعد التقاعد.

لكنني أرى أن العرب هم الذين اكتشفوا هذا العلم، حيث أخرج البخاري في التاريخ الكبير أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “تعلموا العربية؛ فإنها تثبت العقل، وتزيد المروءة”. وهناك من ينسب هذه المقولة إلى الإمام الشافعي.

نجد أيضا مقولة مهمة لابن تيمية: “ليس أثر اعتياد اللغة العربية الفصحى مقصورا على اللسان؛ بل يتعمق حتى يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بيّنا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق”.

مفهوم المروءة في لغة العرب

عندما حاولت التأصيل العلمي لمفهوم المروءة الذي استخدمه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اكتشفت أنه يتميز بالثراء؛ حيث يشمل الكثير من المعاني التي ترتبط بالشرف والكرم والعزة والسيادة في الشخصية العربية، فقد اعتبرها ابن منظور كمال الرجولة، أما الماوردي فاعتبرها محاسن الأخلاق والرجولة والنخوة والشرف؛ لكنه أضاف مجموعة أخرى من المعاني تشمل أن يتعفف المرء عن الحرام، ويبتعد عن الآثام، وأن يحكم بالعدل فينصف، وأن يبتعد عن الظلم، وأن لا يعين قويا على ضعيف، وأن لا يفضل الدنيا على الشرف والكرم.

ولأن المروءة صفة تشكل فخرا للرجال، فقد أسرف الشعراء في استخدامها في مدح القادة والأمراء والملوك، فتطلع كل رجل عربي لأن يشتهر بهذه الصفة، فاجتهد في الالتزام بكل شروطها مثل الكرم والشجاعة ونجدة الضعيف والدفاع عن المظلومين والعمل لتحقيق العدل.

لذلك أثر استخدام الشعراء لهذا المفهوم في المدح في سلوك العرب؛ فأكثروا من تكرار الكلمات التي ترتبط بالمروءة، وتتضمن معانيها في كلامهم، فأثرت في سلوكهم، وهذا يبرهن على صحة مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلغة العرب تزيد علوّ الهمة، فتجعل الرجل يتطلع للمعالي والمجد والرفعة والسيادة والقيادة، وكلما كرر في حديثه الكلمات القوية، زاد طموحه لأن يفخر به قومه، فارتبط الاجتهاد في الحياة في نفوس العرب بالمروءة، وتنزيه النفس عن كل نقيصة وعيب، فاعتبروا الجور على الضعيف عارا، والتخلي عن نصرة المظلوم خورا وجبنا وعجزا لا يليق بالرجال.

الإسلام وترشيد المفهوم

إذا كان العربي قد اكتملت رجولته وتطلع للمجد والمعالي بفضل لغته التي احتل فيها مفهوم المروءة مكانة متميزة؛ فإن الإسلام أطلق طاقاته، وجعله يتطلع للقيام بوظيفة حضارية عظيمة، فانطلق الرجال بلغتهم الفصحى، ومبادئهم الإسلامية، وبالمعرفة التي أكرمهم الله وأعزهم بها؛ ليحرروا البشرية من ظلم الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.

لذلك ارتبطت اللغة العربية بالحرية والعدل والنخوة والكرم، فهام بها حبًّا الذين حررهم الإسلام من الظلم، فتطلعوا إلى أن يتعلموا لغة العرب، ويصبحوا مثلهم في أسلوب حياتهم، ويتشبهوا بهم في صفاتهم، ليقوموا مثلهم بالوظيفة الحضارية العظيمة وهي تحرير البشر من العبودية للطواغيت، ليصبحوا عبيدا لله وحده.

لذلك ازداد مفهوم المروءة ثراءً بفضل الإسلام؛ فتم ربطه بوعي بمكارم الأخلاق، وعزة المؤمن صاحب المبادئ والرسالة والوظيفة الحضارية، كما تم ربطه بالدين والتقى والأدب؛ حيث جاء في شعر العرب:

وإذا الفتى جمع المروءة والتقى * وحوى مع الأدب الحياء فقد كمل

وهذا يعبر عن رؤية العربي الجديدة التي جعلت مروءته في خدمة دينه، فهو يلتزم بها عبادة لله، فإن كان قبل الإسلام ينزه نفسه عن كل عيب ونقص، ويبتعد عن الآثام خلقا وشرفا ونسبا وأصالة، فقد أصبح بعد الإسلام يلتزم بكل معاني المروءة عبادة لله وحبا له وقياما بوظيفته الحضارية، ولأن إيمانه بالله يفرض عليه أن يعمل لتحقيق العدل، ودفع الظلم ومقاومته، وتحرير الإنسان الذي كرمه الله، فلا يجوز أن يتعرض للذل والإهانة والظلم.

لذلك فتح الإسلام آفاقا جديدة أمام العربي تتجلى فيها مروءته، بعد أن اكتمل عقله، وثبت قلبه، وزادت حكمته، وتوهجت بصيرته؛ فأصبح له الكثير من الأهداف العظيمة التي يستخدم صفاته الإنسانية المتميزة لتحقيقها.

المروءة وموسيقى لغة العرب

ولغة العرب تجعل معاني الكرم والشجاعة والفخر تزداد وضوحًا، وتصبح لها موسيقى يطرب لها الكرام الذين يعرفون جمال لغتهم، التي تزيد مروءتهم وشهامتهم وقوتهم في الدفاع عن الحق ومقاومة الباطل.

وربما أدرك حافظ إبراهيم هذا المعنى في موسيقى لغة العرب، وهي تتغنى بالمروءة؛ فقال:

إني لتطربني الخلال كريمة * طرب الغريب بأوبة وتلاق

وتهزني ذكرى المروءة والندى * بين الشمائل هزة المشتاق

فمتى نعود إلى لغتنا العربية الفصحى لتنتفض إرادتنا، وتتجلى مروءتنا في مقاومة الباطل والظلم وبناء عالم جديد يقوم على الحرية والعدل.

المصدر : الجزيرة مباشر