أكل الكلاب والخيل والحمير بين الفقهاء والإلهاء

خالد الجندي

هناك قضايا يثيرها الإعلام في مصر بين الحين والآخر، ويدخل على الخط معهم مشايخ يدورن في فلكهم؛ ففي الشهر الأخير طُرحت على الناس قضية أكل الكلاب، وأن أكلها لا مانع منه، بل ذهب خالد الجندي إلى أن الإمام مالك قد أباحه، ثم خرج إعلامي آخر يقول: ما المانع من أكل الحمير والخيول؟

وكأن الشعب المصري لم تعد مشكلته في الطعام واللحوم سوى تغيير نوعيتهما، وأن العائق فقط أمام حل مشكلة اللحوم في مصر، هو تقبل الشعب للحكم الشرعي، وأن المانع لديه هو حرمة هذه الأنواع، فيخرج عليه الشيوخ، والإعلاميون، ببيان منافع وفوائد وحِلّ هذه الأنواع. ورغم أن المسألة لا تتعلق هنا بالحكم الفقهي فقط، فإن كتب الفقه لم تقصر في هذه المسألة، فقد ذكرت كلها حكم هذه الأنواع جميعا، وهي مسألة موجودة في معظم الكتب ولا تستغرق سوى صفحة، أو صفحتين على الأكثر، فهل المشكلة في الحكم الشرعي، أم للمسألة أبعاد أخرى؟

حكم أكل الحمير والخيل

أما عن الحكم الشرعي في أكل هذه الأنواع من الحيوانات، فسنبين الحكم مختصرا، فليس هو موضع النقاش الحقيقي في الأمر، وقد تعرضت كتب المذاهب الفقهية للمسألة، ولو أراد الإنسان البحث عن الموضوع فسيصل إليه بسهولة، فسنجد كتابا من أشهر الكتب التي تستعرض خلاف الفقهاء في مثل هذه القضايا، بلغة مختصرة، وسلسلة، وهو كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، فقد تكلم عن حكم أكل ذوات الحافر الإنسية، أي: الخيل، والبغال، والحمير، فقال:

جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الإنسية (أي التي تعيش مع الإنسان ويستعملها في حياته)، إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحانها، وعن مالك أنه كان يكرهها، ورواية ثانية مثل قول الجمهور.

وكذلك الجمهور على تحريم البغال. وقوم كرهوها ولم يحرموها، وهو مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك، وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة. وذهب الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد وجماعة إلى إباحتها.

والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل”.

هل أجاز مالك أكل الكلاب؟!

أما ما ادعاه خالد الجندي من أن الإمام مالك أجاز أكل الكلاب، فليس صحيحا، فقد ذكرت كتب المالكية عدم إباحة مالك للكلاب، وقد روى المدنيون عن مالك تحريم كل ما يعدو من هذه الأشياء ـكالأسد، والنمر، والثعلب، والكلب، وأن ما لا يعدو يكره أكله ولكن المشهور الأول. وقال الإمام الصاوي المالكي: وقد علمت أن في الكلب الإنسي قولين بالحرمة والكراهة، وصحح ابن عبد البر التحريم قال: ولم أر في المذهب من نقل إباحة ‌أكل ‌الكلاب.

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية “يرى جمهور الفقهاء حرمة أكل لحم كل ذي ناب يفترس به، سواء أكانت أهلية كالكلب والسنور الأهلي، أم وحشية كالأسد والذئب. استدلوا لذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. وللمالكية في أكل لحم الكلب قولان: الحرمة، والكراهة، وصحح ابن عبد البر التحريم، قال الحطاب ولم أر في المذهب من نقل إباحة أكل الكلاب”.

وإذا كان الجندي يدعي أن طهارة الكلاب عند الإمام مالك تحل أكلها، فهو كلام فارغ فقهيا، لا يخرج من لسان شخص درس يوما الفقه الإسلامي، أو اطلع على مراجعه، فالخنزير مثلا، روي عن البعض طهارته، ومع ذلك فهو محرم بنص القرآن الكريم، والأصنام طاهرة، ومع ذلك فعبادتها كفر بالله تعالى، والخمر مختلف في طهارتها، ومع ذلك فهي محرمة شرعا، فليس معنى طهارة الشيء أنه حلال، نعم النجس محرم أكله هذا معروف فقها، لكن ليس كل طاهر حلال الأكل أيضا.

أيها أرخص؟

هنا انتهى رأي الفقه والشرع في حكم أكل هذه الحيوانات، وقوله فيها واضح بين، لا لبس فيه، والسؤال الأهم هنا: أيها أرخص حتى يأكله الناس؟ إذا افترضنا جدلا أن الكل تساوى في حل أكله، فالخيل والكلاب، غالية الثمن جدا، سواء في مصر أم في غيرها، وبالنزول لأي محل لبيع للكلاب، سنعلم أن أثمانها غالية جدا، ولا يقوى على شرائها، واقتنائها سوى طبقة معينة في مصر، هذا فضلا عن تكاليف إطعامها ومعالجتها عند الطبيب البيطري.

وما يقال عن الكلاب، يقال عن الخيل، فهل الخيل من الحيوانات الرخيصة الثمن في مصر؟ وهل هي موجودة بوفرة لتكفي حاجة الناس، وكأنها متوفرة في الشوارع والطرقات؟ الخيول أيضا من الحيوانات الغالية الثمن جدا، خاصة إذا كانت من سلالات مميزة.

أيها أوفر لحما؟

ثم النقطة الأخرى هنا، لو كانت هذه الحيوانات كالكلاب والحمير، إذا جاز أكلها، وهو غير جائز، ولو كانت أرخص من الحيوانات التي اعتاد المصريون أكلها، فهل هي أوفر لحما؟ أي أنها عند ذبحها تحل أزمة ومشكلة عدم وجود اللحم؟ الحقيقة أن الكلاب والحمير ليست من الحيوانات التي تمتاز بامتلاء أجسادها باللحم، وبخاصة في بلادنا المصرية، فقد ضربت النحافة أجساد الإنسان والحيوان معا، فهي ليست حلا لمشكلة غلاء وشح اللحوم التي عهد الناس أكلها في مصر.

الحل عند العز بن عبد السلام

لقد مرت محن مثل هذه المحن على الشعب المصري، وقد كانت دائما السلطة تفكر التفكير الأسهل، وهو الميل على المواطن، سواء بالضرائب، أو بتحميله حل المشكلة، وقد حدث ذلك في عهد حكم المماليك في مصر، وأرادوا حل مشكلتهم المالية، بدعوى الدفاع عن الأوطان لوجود تهديد خارجي بالغزو، وأفتاهم بعض المشايخ بفرض الضرائب، ولم يبق سوى العز بن عبد السلام، فقيهها الأبرز والأجرأ، فرفض، وقال: عندما تخرجون ما لديكم من ذهب، وأموال، وتبيعون ما لديكم من جوار، وتخرجون الذهب الذي لدى جواريكم وعبيدكم، ثم ينتهي ذلك، ولا يفي بالغرض، عندها نفتي بفرض الضرائب على الشعب، فالحل يبدأ من السلطة، ولا يبدأ من الشعب، هذا هو الموقف الصحيح على مدار التاريخ.

الهدف من هذا النقاش

فالمسألة ليست إلا بابا من أبواب إلهاء الناس، تارة باسم الشرع والخلاف الفقهي، وتارة ليتحول نقاش الناس بعيدا عن مسؤولية السلطة عن ذلك، فليس مطلوبا من الناس أن تبحث عن حلول وبدائل للأطعمة، بل المطالب به السلطة، وليست الشعوب، وبخاصة أن السلطات هي التي دمرت ثروة الشعوب الحيوانية.

ومطلوب كذلك بفتح باب الحديث عن أكل الكلاب والحمير، أن يتبنى الناس مبدأ: هم أخف من هم، وقضاء أخف من قضاء، وبلاء أرحم من بلاء، فبلاء أكل الفراخ المجمدة المستوردة إذن أرحم من أكل الكلاب والحمير، والحمد لله على نعمة الستر بالمجمدات المستوردة، وهو مبدأ تعمل عليه الآلة الإعلامية منذ زمن، فمن مبدأ: أحسن من سوريا والعراق، إلى مبدأ: أحسن من أن نأكل الكلاب والحمير.

المصدر : الجزيرة مباشر