عندما عاقبني “وي شات” كأني صيني!

شعار منصة "وي شات" يظهر به مجسمات ألعاب صغيرة في هذه الصورة التوضيحية التي التُقطت في مارس/آذار 2022 (رويترز)

 

عاقبني موقع (وي شات) كأني صيني. أوقف حسابي على خدمات الدردشة في تطبيقه الواسع الانتشار. حرمني “وي شات” من التواصل مع أصدقائي داخل الصين، وهم المحرومون من وسائل التواصل الاجتماعي الدولية مثل فيسبوك وتويتر ولينكد إن وغيرها، حيث تحظرها سلطات بيجين.

كنت من أول المشاركين بعضوية التطبيقات الصينية على وسائل التواصل الاجتماعي، منذ تأسيس إمبراطورية “على بابا” لعملاق التكنولوجيا “تنسنت” عام 2003، وانتهاءً بـ”وي شات” الذي يخدم 700 مليون مشترك. زاد اعتمادي على التطبيق، مع عودة كثير من الأصدقاء إلى وطنهم أو العمل خارج المنطقة العربية، وصعوبة السفر إليهم في الآونة الأخيرة، وتزايد القبضة الحديدية التي فرضتها السلطات على وسائل التواصل الدولية، والبريد الإلكتروني لجوجل أو ياهو، مع ملاحقة من يضع أنظمة فك شفرة الحظر عن تلك المواقع، بالسجن 5 سنوات.

حراس البوابة

لأول مرة منذ سنوات، لم نتمكن من تهنئة مرئية للأصدقاء بـ”عيد القمر”، لأعزاء عملنا معهم نحو ربع قرن، ومتابعة أحوالهم وأنشطتهم اليومية. جاء الحظر مباغتا، بعد تحذير تلقيته مرة واحدة، عقب رفع مقالات عن استبداد الحزب الشيوعي. طلب الموقع أن أعيد إدخال بيانات الحساب مع إبداء الأسف عن نشر معلومات تسيء إلى الدولة أو رموزها. لم أشعر بقسوة التحذير-الذي لم آخذه مأخذ الجد- إلا بعد أن تلقيت رسالة أخيرة، بصعوبة فتح الحساب، وفقدان التواصل مع الأصدقاء إلا بمن بقي منهم خارج الصين ولديهم حسابات على تويتر وفيسبوك وجوجل.

تسخّر مواقع التواصل الاجتماعي الصينية معلومات المشتركين، في خدمة الأجهزة الأمنية. صدرت قوانين إضافية العام الماضي، بدواعي الأمن القومي، جعلت المواقع مسؤولة عما يُنشر على صفحاتها، فحولت موظفيها إلى “حراس بوابة” لكل ما يُكتب وما يدور من مناقشات، وما يرفعه الجمهور من فيديوهات، وكتابة تقارير يومية عن المخالفين وتسليمها إلى السلطات.

تتلقى المواقع قوائم يومية بالمحظورات الأمنية، وأسماء الأشخاص المطلوبة ملاحقتهم، والكلمات التي يتطلب محوها على الفور. تشكو إدارات المواقع من العبء المادي والقانوني الذي وقع على كاهلهم، خاصة أن الشباب الصيني أصبح أكثر رغبة وجرأة في التعبير عن ذاته، ودفعته الأزمات الاقتصادية والقيود الغليظة وغير الإنسانية التي تعرضت لها الأسر، أثناء تطبيق سياسة “صفر كوفيد” لمدة 3 سنوات، إلى تنظيم احتجاجات واسعة انطلقت جميعها من شبكات التواصل الاجتماعي.

أقوى من القمع

لم تفلح الأجهزة الأمنية في منع الاحتجاجات، رغم امتلاكها شبكة مراقبة تربو على 450 مليون كاميرا، تتتبع 1.4 مليار نسمة في كل ميدان وشارع بأنحاء البلاد. اخترع المحتجون وسائل لتضليل الرقباء على الإنترنت، حيث يكتبون بخط اليد ما يريدونه، ويضعونه على شكل صور، كي لا تُرصد المعلومات بسرعة لأجهزة الأمن عبر خوارزميات الكلمات النصية. ابتكروا لغة خاصة، فعندما يشيرون إلى كوريا الشمالية، فإنهم يقصدون الصين، وهكذا حتى يتهربوا من الملاحقة الفورية.

تُظهر دراسات علمية أن المواطنين لديهم “نظرة معقدة ولكنها متماسكة وغالبا ما تختلف اختلافا كبيرا عن الأطر والسياسات الأيديولوجية الحكومية الرسمية”. شعرنا بهذه الرؤية بالتعامل المباشر مع أصدقاء ومواطنين فترة طويلة، فلاحظنا أن الشخص العادي لا يحب المخاطرة، ويضع قيمة الاستقرار بسلم أولوياته، على الحرية السياسية. ويزيد دعم الدولة من النخبة التي تتشكل من كبار المسؤولين والإعلاميين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال الخارجين من رحم الحزب الشيوعي.

دوافع التغيير

يتجه الشباب ممن حصلوا على تعليم أفضل ودخل جيد، بعيدا عن ارتباطهم بالحزب والسلطة، لأنهم يقدّرون حرية التعبير على الاستقرار الاجتماعي، ولا يؤمنون بأن الاحتجاجات في سبيل الحصول على الحقوق تقوض هذا الاستقرار. رغم وجود أغلبية داعمة للنظام، متسقة الأفكار مع السلطة، فإن الأجيال الجديدة تتجه إلى رفض قمع حرية التعبير وحق التظاهر، وانتقاد أخطاء الحكومة، في وقت ارتفعت فيه وتيرة الهجوم الكاسح من الحزب لملاحقة المواطنين، وكبت حرياتهم.

عندما يجد الحزب الشيوعي مواطنين يحملون وجهات نظر مختلفة، يتتبع الأشخاص غير المرغوب فيهم، وتبدأ الاحتكاكات بحذف حساباتهم من وسائل التواصل الاجتماعي، فإذا حاول أحدهم الالتفاف على ذلك، تبدأ الملاحقات الأمنية، والحرمان من الوظائف والدفع إلى السجون عبر مسيرة طويلة من التعذيب الوحشي، وتتبّع أهله والمريدين من حوله.

ذكر طالب صيني، مقيم في كاليفورنيا، لصحيفة (Rest of world) بعد كتابته 500 كلمة -يسمح بها “وي شات”- عن مذبحة تيانانمين عام 1989، أن “وي شات” حظر حسابه، بعد ساعات من تعليقه أن “حملة الحكومة على المطالبين بالديمقراطية كانت دموية”. قال الطالب “وضعني (وي شات) في عزلة عن عائلتي وأصدقائي في الوطن”.

اعتذار بالإكراه

حاول الطالب الحصول على حساب باسم مستعار من شركة (تينسنت) المالكة لتطبيق (وي شات)، فطلبت منه “اعتذارا مكتوبا وتعهدا بأنه لن ينشر أي شيء ينتهك القوانين واللوائح لحماية الاستقرار الاجتماعي، وأعمال تينسنت”. وطلب (وي شات) أن يكتب الطالب خطابا آخر يعترف فيه بذنبه، بخط اليد إلى جانب صورة له، وهو يحمل بطاقة هويته الوطنية الصينية، وكتابة بياناته الشخصية كاملة، قبل أن يعيد الحساب إليه.

كلام الطالب الذي كتبه، قبل حظر حسابي بستة أشهر، جاء ضمن عشرات الحالات المماثلة، أرسلها لي زميل صيني مقيم بين الرياض ودبي، ليطلعني على صعوبة تجديد حسابي الخاص، دون تقديم هذا الاعتذار المكتوب، الذي يطلبه الآباء والمعلمون الصينيون من الأطفال في حالة ارتكابهم أي أخطاء. عادة ما تطلب الشرطة الصينية من المشتبَه بهم والمجرمين، توسلات وتعهدا بألا يكرروا أخطاءهم، لذلك سار “وي شات” على النهج ذاته لإجبار المشتركين على الالتزام بتعليمات الأخ الأكبر القابع على مقاعد السلطة وقادة الحزب الشيوعي والأمن المسيطر على شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، قبل أن يسمح بتواصلهم عبر المواقع مع أحبابهم أو خروجهم إلى الشوارع من جديد.

المصدر : الجزيرة مباشر