مراجعات القرضاوي الفقهية مع تلامذته

الشيخ يوسف القرضاوي

ذكرت في مقال سابق بعض الفتاوى الفقهية التي راجع فيها شيخنا العلامة القرضاوي رحمه الله نفسه، وذلك عن طريق بعض تلامذته، في القضايا المتعلقة بفقه الأقليات المسلمة، وهناك قضايا أخرى فقهية مهمة، رأيته يراجع نفسه فيها، ويقتنع بما ذكره تلامذته من أدلة في الفتوى، ولم يجد حرجا في أن يغير رأيه واقتناعاته الفقهية، لأن الدليل يدعم هذا التوجه الفقهي.

القرضاوي يطلب من تلامذته مراجعته

يطلب القرضاوي من تلامذته دوما مراجعة ما يكتب، سواء في كتبه التي صدرت، أو كتبه التي يكتبها ويعدها للطبع، وكثيرا ما يشير إلى فائدة علمية، أو رأي كان يقول بعكسه، وكثيرا ما يكتب ذلك، كما فعل في كتابه “فقه الجهاد” وكتب أخرى، بيّن فيها أنه استفاد من تلامذته العاملين معه في مكتبه، وأنهم كثيرا ما ناقشوه في قضايا كان له رأي معين فيها، فغيّره بناء على نقاش مع تلميذ من تلامذته، وقد جربت ذلك كثيرا فترة عملي معه، بل وبعدها.

وسوف أذكر في هذا المقال بعض النقاشات التي دارت بيننا في فتاوى أو آراء فقهية له رحمه الله، كان يتبنى فيها رأيا معينا، وعند النقاش رأيته يقتنع بالرأي الذي أذكره، من دون أن يشعر بغضاضة في ذلك، مع فارق السنّ، وفارق العلم، ولكنها أخلاق العلماء الذين يجدون في ذلك إضافة لهم، لا نقصا، وهو أمر امتاز به القرضاوي.

ترك الوضوء من أكل لحم الإبل

عندما كتب القرضاوي كتابه “فقه الطهارة”، كان رأيه الذي يميل إليه فقهًا، أن أكل لحم الإبل يُتوضأ منه، وأن رأي الحنابلة قوي في المسألة، وقد أصل الشوكاني له تأصيلا قويا في كتابه “نيل الأوطار”، وعندما كتب نواقض الوضوء في كتابه “فقه الطهارة”، كان في بادئ الأمر قد قال بنقض الوضوء من لحم الإبل، واستند إلى ما كتبه الحنابلة والشوكاني، وكنت فترة الثانوية الأزهرية، قد قرأت كتاب “المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود” للشيخ محمود خطاب السبكي، وقد رد فيه ردا أصوليا قويا على كلام الحنابلة والشوكاني تحديدا، أبطل فيه حججهم في القول بالوضوء من لحم الإبل، وقد دلني على كلام السبكي صديقنا الشيخ حامد العطار.

حملت الكلام إلى القرضاوي، ووضعته أمامه، وبمجرد قراءته، ونظره في الحجج الأصولية والدليلية، غيّر موقفه تماما، ولم يكن قد اطلع على هذا الجزء من كتاب السبكي، وقد اطلع على باب الزكاة منه، عند كتابته “فقه الزكاة”، واستدل به في أكثر من موضع، وذهب إلى أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وأن الوضوء منه من باب الاستحباب فقط.

قراءة القرآن ودخول المسجد للحائض والجنب

ومن القضايا التي لها طرفة وموقف علمي مهم للقرضاوي، رأيه في قراءة الحائض والجنب للقرآن ومسّهما له، وكذلك دخولها المسجد، فقد كان يرى عدم الجواز إلا لضرورة، أو المرور، ودار نقاش في الموضوع بيننا، وقلت له: يا مولانا، أرى أن رأي الإمام الشوكاني، والشيخ الألباني، ومن قبلهما الإمام ابن حزم، أدلته أقوى. وبالفعل عندما رجع إلى كتاب “تمام المنة في التعليق على فقه السنة” للألباني، ونظر طويلا في الأدلة المذكورة، وقد ارتكز الألباني في معظم ما ذكر إلى كلام ابن حزم، عندها رأى القرضاوي كذلك أنه لا حرج في قراءة الحائض القرآن ومسّها المصحف، وكذلك الجنب، وإن رأى أن الجنب يمكنه أن يرفع جنابته بالغسل، لكن الحائض لا يمكنها ذلك.

القرضاوي يكتب قصة قصيرة من دليل فقهي

أما الطرفة العلمية التي وردت أثناء هذا النقاش في مسألة دخول الحائض المسجد، فهي أن الدليل الذي ساقه ابن حزم في كتابه “المحلى”، لجواز دخول الحائض المسجد، قصة امرأة كانت جارية عند قوم، وكانت عندهم فتاة عروس دخلت تستحم، وقد خلعت ثيابها وذهبها خارج حمامها، وجاء طائر فظن الأصفر اللامع طعاما، فأمسكه بمخالبه وطار به بعيدا، فلما خرجت الفتاة لم تجد عقدها الذهبي، واتهم القوم الجارية، فسألوها فنفت التهمة، ثم أصروا على تفتيشها حتى فتشوا عورتها، وعندما وجد الطائر أن ما التقطه ليس طعاما، عاد به إلى مكانه، فتبين القوم براءة الجارية، فبكت وشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعتق الجارية، ولم يكن لها أهل ولا مكان للمبيت، فكانت تبيت في المسجد، فاستدل بذلك ابن حزم؛ لأنها يقينًا كانت تأتيها كل شهر دورتها الشهرية، ولم تكن تخرج، وما جاز لها جاز لغيرها.

وجد القرضاوي أن الحديث في صحيح البخاري، فطلب نص البخاري، ثم وجدته يمسك بالورق والقلم، ففهمت أنه يكتب، وعندما ينشغل الشيخ بذلك يفضل ممن حوله الصمت، خرجت وبعد ساعة ناداني، ثم سلمني ورقات بعنوان: ذات الوشاح.. قصة قصيرة، بقلم: يوسف القرضاوي، فقد جعل من هذا الدليل قصة، وكتبها قصة قصيرة وهي أول وآخر مرة في حياة القرضاوي يكتب فيها هذا اللون القصصي، ولا أدري هل ضُمّت إلى تراثه أم لا؟ لأني وقتها قد أرسلتها إلى موقع “سلام أون لاين” وتم نشرها فيه، ولا أذكر جهة أخرى نشرتها، وقد بحثت عنها ولم أجدها.

المسح على الجورب

منذ خمس سنوات تقريبا نشرت مقالا على موقع “الجزيرة مباشر”، بعنوان: “الفقه الإسلامي والمسح على الجوارب”، ذكرت فيه الآراء المختلفة في حكمه، وذكرت أيسر الآراء فيها، مثل: جواز المسح على الجورب خفيفا كان أم غير خفيف، وعدم توقيت المسح بيوم للمقيم وثلاثة أيام للمسافر، وعدم اشتراط لبسه على وضوء، وعدم انتقاضه بالخلع.

وقد أوصل للشيخ أحد الإخوة الكرام المقال، أو خلاصته، ولم يوافقني في كثير مما ذهبت إليه في المقال، فاتصلت به، وكان رافضا في بادئ الأمر، وناقشني في قضية توقيت المسح على الجورب، وكون الماسح يمسح في أي مدة شاء، فقلت له يا: يا مولانا الحديث قال: “للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن”، واللام هنا للجواز وليست للوجوب، ثم إنه رأيك الذي ذكرته في كتابك “فقه الطهارة”، وكان قد نسي رأيه في المسألة.

أما بقية المسائل الأخرى فهي تيسير على الناس وبخاصة كبار السن مثلك، فاقتنع، بوجهة النظر، ولم يزد على قوله: جزاك الله خيرا. ثم بعد ذلك زاد الهجوم على المقال، ومؤخرا اكتشفت أن الإمام محيي الدين بن عربي، قال بنفس ما ذكرته في مقالي تماما، فقد ذكره ابن عربي في كتابه “الفتوحات المكية” (1/ 344-349).

خروج المرأة في عدة الوفاة من بيتها

كانت فتوى القرضاوي، فيما يتعلق بعدة المرأة المتوفى عنها زوجها، أن تمكث في بيتها أربعة أشهر وعشرا، لا تخرج إلا لضرورة، وفي لقاء جمعني بفضيلته، وكان قد شاهد برنامجي “يستفتونك” الذي كان يذاع على قناة “مكملين”، وقد أفتيت امرأة في عدتها بأن هناك رأيا يجيز لها الخروج، ولا حرج في ذلك، وهو ما أفتيها به، فقال لي: من أين أتيت بهذا الرأي؟ كنت وقتها في زيارة لمكتبه، فجلبت كتاب “زاد المعاد” للإمام ابن القيم، وكانت الجملة المهمة قول ابن القيم: “والخلاف هنا بين الفقهاء، هل التربص حق للمرأة، أم حق عليها”، وبناء على ذلك، فمن رأى تربصها في بيت الزوجية حقًّا عليها، أوجب عليها عدم الخروج، ومن رآه حقًّا للمرأة رأى جواز البقاء أو الخروج ولا حرج، واستدل على ذلك بفعل السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد كانت تخرج ببنات أخيها في عدة الوفاة للحج أو العمرة، من دون محرم.

فسألني الشيخ: هل هذا الرأي ذكرته في أي من كتبي؟ قلت له: لا، بل المذكور عكس ذلك، فنادى سكرتيره العلمي الأخ العزيز الشيخ إسماعيل إبراهيم، وقال له: يا إسماعيل، خذ هذه الصفحات، لنضمها عند أقرب حديث أتعرض له للموضوع إن شاء الله.

إسقاط الجنين المشوه خلال أربعة أشهر وعشرا

ذات يوم كنت في مكتب الشيخ بجامعة قطر، أتذكر أنه كان في عام 1999م، وقد اتصلت سيدة جزائرية تقيم في فرنسا، وتبكي بكاء مريرا، لأنها قد حملت، وأبلغها الأطباء أن حملها مشوه خلقيا، وتريد أن تجهضه، ولكنها أتمت أربعة أشهر، فقال لها الشيخ: الرخصة مرتبطة بتمام الأشهر الأربعة الأولى، كنت حاضرا، فقلت له: يا مولانا قرأت رأيا منذ فترة لابن عباس رضي الله عنه، يبين أن نفخ الروح يكون بعد أربعة أشهر وعشرا.

وضع الشيخ يده على سماعة الهاتف، ثم قال لي: هل أنت متأكد من هذا الرأي؟ قلت: نعم، قال: أريد أن أراه، مع ثقتي واحترامي، لكنه العلم ولا تحمل في نفسك، قلت له: لا أذكر تحديدا، قال: لا أستطيع أن أفتي في قضية كهذه دون أن أرى هذا الكلام، ثم قال للسيدة: أعيدي الاتصال بعد ساعة، وقال لي: أمامك ساعة ادخل المكتبة وابحث، وائتني بقول ابن عباس.

لم تكن وقتئذ وسائل البحث قد تطورت هذا التطور الهائل الذي يسّره، خمنت أين يمكن أن أجد نص ابن عباس، وبالفعل بعد فترة وجيزة وجدته في “فتح الباري” للإمام ابن حجر، صورت النص، وجلبته للشيخ، وقرأه، فوجدت على وجهه فرحا وتهللا، وكأنه صاحب المشكلة، وقال: الحمد لله، الآن يمكن أن أفتيها بقول ابن عباس.

وهناك قضايا أخرى كثيرة، دار النقاش بيننا فيها، وبين تلامذة آخرين كثر، أتمنى أن يذكروها، ويدونوها، فهي ليست من باب الحديث عن النفس، بل هي حديث عن مساجلات ومناقشات مهمة تتعلق بفقيه كبير من أكبر فقهاء الأمة المعاصرين، ففضلا عن أنها دورس في مراجعة النفس والفكر والفقه، فهي دروس في علاقة الشيخ بتلامذته، وقبوله الحق من أي شخص دله عليه.

المصدر : الجزيرة مباشر