من فضلك.. لا تكتب عن “محرقة” الأسعار في مصر!

عملة مصرية جديدة فئة الجنيه (رويترز)

 

هذه ليست دعوة إلى عدم الكتابة عن (محرقة) الأسعار والغلاء في مصر، وهي (محرقة) مشتعلة بالفعل، إنما أن تكتب الآن عن أسعار كل شيء تتصوره أو لا تتصوره من سلع ومنتجات، فإنك حتمًا بعد اللحظة التي تكتب فيها، أو تتحدث خلالها، ستجد أن ما دونته، أو تحدثت فيه، قد تجاوزه الزمن، وهو زمن قصير جدًّا، بالساعات، وإذا طال يكون يومًا أو بعض يوم، حيث ستجد نفسك أمام واقع جديد بأسعار جديدة، فيكون ما كتبته قد صار من الماضي، وحياتنا كلها مقارنات مع الماضي، حتى الأمس نفسه يجري الحديث عنه بحسرة أمام قسوة اليوم، رغم أن الفارق بينهما سواد الليل.

نحن لا نمتلك ترف التطلع إلى المستقبل، أو التفاؤل به، أو انتظار الأفضل فيه، نحن أبناء الماضي دومًا أمام لهيب الحاضر، وعتمة المستقبل، نحن في انتظار (جودو) الذي لا يأتي أبدًا، كما هو جوهر مسرحية صمويل بيكت الشهيرة (في انتظار جودو).

الملكية وما بعدها

هناك من يتحسرون على أيام الملكية، ويأتون بقوائم أسعار ذلك الزمان القديم بالمليم والتعريفة والقرش، أما الجنيه فكان ثروة تملأ بها أكياسًا من السلع، وغيرهم يعودون إلى عهد عبد الناصر، ويقولون إن الحياة كانت شبه مجانية في الطعام والشراب والملبس والمسكن، وهذا حقيقي رغم الفقر حينئذ، الحياة كانت تسير بأقل القليل من القروش، وستجد فريقًا يستدعي مظاهرات 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977 احتجاجًا على زيادات محدودة في أسعار بعض السلع، وكانت بقروش قليلة، ومن لم يعش تلك المرحلة ويقرأ عن الزيادات كأحد الحلول للخروج من أزمة اقتصادية عنيفة، ويقارن بينها وبين الزيادة في أسعار يوم واحد حاليًّا فإنه قد ينفجر غيظًا، أو يلوذ بصمت قد يقوده إلى اكتئاب. (سيد بيه يا سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه) أحد هتافات المتظاهرين الموجهة إلى سيد مرعي رئيس مجلس الشعب في عهد السادات الذي تراجع وأعاد الأسعار إلى ما كانت عليه، واتسم عهده أيضًا بالرفق بالناس ومراعاة البعد الاجتماعي.

هل نقول اليوم (حنفي بيه يا حنفي بيه، كيلو اللحمة تجاوز 300 جنيه) وهو هنا حنفي جبالي رئيس مجلس النواب في هذا العهد الذي فاق ما سبقه في مصاعب الحياة وإرهاق تكاليف المعيشة وانفجار غلاء متوحش بلا سقف.

وأما عن حكم مبارك، فإن أحد المدونين كتب يقول إن شعبيته ترتفع رغم خروجه من السلطة ورحيله، وإن الحكم الحالي وراء الحنين المتدفق إلى أيامه، والقصد أن قسوة العيش تدفع الناس إلى مقارنة أحوالهم اليوم مع أوضاعهم في ظل الرئيس الذي ثاروا عليه وأسقطوه، وهذا لا يعني أنه كان أفضل، فقد اعتدنا في مصر أن تكون المقارنة بين درجات الشدة.

تعويم الجنيه.. والخير المنتظر!

التحسر على الماضي الأكثر رحمة من الحاضر يشمل المرحلة الحالية كذلك، فإلى ما قبل أول تعويم للجنيه في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 كانت الحياة تُحتمل، صحيح أنه كانت هناك زيادات مبرمجة في ما يُسمى بالإصلاح الاقتصادي، بدأت بأسعار الخدمات العامة من كهرباء وطاقة ومياه وصرف صحي وزيادات تدريجية في رسوم المعاملات الحكومية، لكن ما دامت ضروريات العيش لا تزال ممكنة كان الناس يمررون الصعود التدريجي في تكاليف الخدمات مستندين إلى خطاب سياسي رسمي وإعلامي موجه مكثف بأن السنوات الصعبة أوشكت على النهاية، وما سيليها سيكون فيها الخير الوفير المنتظر ليس منذ 2013 فقط، إنما منذ بداية عهد الجمهورية قبل 70 عامًا.

كان أملًا وحلمًا قائمًا على حسابات وخطط تنموية ومالية واستثمارية مُغرقة في التفاؤل والرؤية الفردية، متجاهلة ربما المفاجآت غير المتوقعة والأزمات الطارئة والظروف والأوضاع المحلية والإقليمية والدولية الخارجة، وقل أولًا إن التفاؤل والخطاب الشعبوي كان قفزات في الهواء ومشروعات على الرمل ومعمارًا يستهدف الأثرياء، وتنمية لا تناسب الحالة المصرية التي هي بحاجة إلى علاج الفقر والحرمان وجعل الناس يقفون على أقدامهم أولًا ويأكلون ويشربون ويكتسون ويسكنون ويتعلمون ويُعالَجون ويعملون ويبتسمون للحياة ولا يخشون الغد، وبعد ذلك يمكن البدء تدريجيًّا وبهدوء ويقظة وبحسابات دقيقة بالمشروعات الأخرى التي لا تحتل أولوية تنموية مهما كان بريقها.

التنمية.. والواقع

الواضح أنه لم تكن هناك دراسات جدوى متأنية بشأن ما إذا كانت خطة التنمية الجاري تنفيذها بأقصى سرعة هي الخيار الأوحد والمسار الأنسب لبلد وشعب يئن تاريخيًّا من ارتفاع نسب الفقر وتردي الأوضاع وغياب الإنتاج وعدم القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطعام وتزايد فواتير الاستيراد والعجز المزمن في الموازنات والديون القياسية.

التعويم الأول تم احتماله وامتصه الناس، ثم جاءت تعويمات العام الماضي الأصعب حيث تراجعت قيمة الجنيه كثيرًا، مع استمرار انخفاض العملة، مما أحدث محرقة الأسعار والانفلات في الأسواق، وأصبحت السلعة وأنت تشتريها بسعر، وربما إذا عدت بعد ساعات تجد السعر تغيّر بالزيادة.

الحكومة في حالة عجز عن مواجهة الطوفان السعري المتغير بوتيرة سريعة، وعندما أرادت السيطرة على سعر الأرز وفرضت تسعيرة جبرية اختفى من الأسواق وزاد سعره فألغت تسعيرتها الجبرية، وهذا مؤشر واضح إلى عدم القدرة على ضبط أوضاع السوق وإبداع حلول جذرية لزيادة الإنتاج وتحجيم الاستيراد.

عاش الناس مستقرين -ولو بالقليل دون إرهاق- في ظل 5 حروب وأوضاع شديدة الصعوبة مرت عليهم خلال 6 عقود، فلم تنقص السلع، ولم يشتكوا، وكان الفقير يجد طعامه دون يأس، فكيف نصل اليوم إلى هذا الدرك من لهيب الحياة، وتدبير القوت الضروري صار شغلًا شاغلًا لكثيرين؟ وكيف ستستمر الحياة إذَن؟ وإلى متى نظل داخل هذا النفق الطويل المخيف؟! تلك هي المشكلة والأزمة والعقدة.

وغالبًا بعد كتابة هذا المقال زادت أسعار، وبعد نشره ستزيد أسعار.

المصدر : الجزيرة مباشر