تركيا.. الدولة الحاضرة

الرئيس أردوغان مواسيا المنكوبين

كأنّها دَفقاتٌ من الماء العذب، انسابت إلى أفواهٍ أحرقها الظمأُ؛ فَرَوَتْها وأَطْفَأَتْ لهيبها، أو غماماتٌ رطبة، تجمعت من كل حَدْبٍ، ثم انعقدت فوق أرضٍ يَباب؛ فأمطرَتْها بعد جَدْب وخراب.. هكذا كانت التصريحات التي أدلى بها نائب الرئيس “فؤاد أوقطاي” عندما خرج إلى المواطنين الأتراك عقب الزلزال الذي ضرب ولاية هاطاي؛ داعيًا مواطني المدينة إلى عدم العودة إلى البيوت، قائلًا في لغة ملؤُها الحنان الدافئ: “نرجو من جميع المواطنين عدم العودة إلى بيوتهم.. بعون الله سوف تُعَوِّضُكم الدولة عن كل شيء.. لكنّنا لا نستطيع أن نسترد نفْسًا واحدة فقدناها”.

عندما نسمع هذا الكلام ونرى المسؤولين بكافة مستوياتهم، تَنْفُضُهم كراسِيُّهم بالنهار وأَسِرّتُهم بالليل؛ ليمثلوا أمام الكاميرا ويواجهوا الكارثة، بعد دقائق تَفُوقُها عددًا أصابعُ اليد الواحدة.. عندما نشهد ذلك، ثم نتابع الجهود المبذولة على كافّة الأصعدة؛ نقول: هكذا تكون الدولة الحاضرة، الدولة التي تُلْزِمُ نفسها بأن تكون حاضرةً في حياة المواطنين، حاضرة في قضايا الأمّة، في نوازل الشعب، في نكبات الجماهير، في مجريات الأحداث كلها.

وعود كالغيث الهاطل

وبينما كانت المعارضة المنكوبة في أخلاقها وفي منطلقاتها السياسية تتاجر بنكبة الشعب، وتحاول -بِشِقِّ الأنفس- أن تحقق مكاسب سياسية تجنيها من مصائب  المنكوبين، وتمارس العويل بلا خير تقدمه ولا نفع تجود به؛ إذْ بالرئيس يخرج على الناس في أقل من دقيقتين، فيطلق الوعود الواثقة ببناء عشرات الآلاف من البيوت في كل مدينة من المدن المنكوبة، وبتعويض كلٍّ عمّا فَقَدَهُ، فَمَنْ فَقَدَ أبقارا أو أغناما أو دجاجا أو حتى نحلا؛ فسوف يعوض عن كل ما فقده، ومن جنسه، من غير غُرْمٍ يقع على أحد من المنكوبين، ستقوم الدولة بكل هذا من غير تحميل لمواطنيها إلا أن يَطَّوَّعوا؛ فيا للعجب من سلوك الدولة التي صارت للناس كأمٍّ حنون وأبٍ مسؤول! مَنْ لِي ولكل عربيٍّ مثلي بدولة كهذه!

والذي وَعَدَ هو أردوغان، والأتراك يعلمون من هو أردوغان عندما يَعِدُ، وقد خَبَرُوه في المواقف، وكان آخرها موقفه من المتضررين جرَّاءَ الحريق الذي شَبّ في الغابات منذ عامين تقريبًا، وموقفه في آخر زلزال وقع قبل هذا الزلزال الكبير منذ أكثر من عام تقريبا، هكذا تكون الدولة التي تقف إلى جانب مواطنيها، ولا تتركهم نُهْبَةً للذين يتاجرون بنكبات الشعوب وكوارث الخلق، الذين يُتْقِنون -حسب تعبير ست جالي وجيرمي إيرب- اختطافَ الكارثة، أو يمارسون -حسب تعبير نعومي كلاين- اقتصادَ الكوارث، ما أحوج الشعوب إلى الحماية ممن لا يرحم في هذه الحياة ولا تعرف الإنسانيةُ إلى قلبه سبيلا!

هكذا تمارس الدولة وظيفتها

على الرغم مما تقدمه الدولة المدنية في الغرب المعاصر لمواطنيها؛ فإنّنا عندما نتحدث عن وظيفة الدولة في الفكر السياسي المعاصر نصطدم بمعضلة الصراع بين حقّ الفرد وحقّ الجماعة، بين مسؤولية الفرد ومسؤولية الدولة؛ بسبب ما تأسَّسَ عليه هذا الفكرُ من أَسْبَقِيَّة الفرد على المجتمع والدولة، ومن كون الدولة المعاصرة -حسب الفكر الليبرالي- شَرٌّ لابد منه، ومن أنّ وظيفتها محدودة في إطار الأعمال السياسية والقانونية الضرورية داخليا وخارجيا، إذْ لا يحق لها التدخل في شؤون الفرد، ذلك الفرد الذي يُنْظَرُ إليه كوحدة إنتاجية أو سلعة اقتصادية، فعلى الرغم مما قد تقدمه الدولة من مساعدات للأفراد فإنّ هذا الفكر يؤسس لحياة سياسية جافّة منزوعة الشعور معدومة الضمير، ولولا “النظرية الكينزية” التي اضطروا إلى الأخذ بها مع مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم لما بقي من الإنسانية في الغرب شيء يمكن أن تَقْتَاته السياسة وتَعْتَاش عليه، ومع تراجع هذه الفلسفة وصعود رأسمالية الصدمة واقتصاد الكوارث وفلسفة السوق الحرة سوف نشهد تراجعا كبيرا في الوظائف الاجتماعية للدولة في أعتى الديمقراطيات.

وعلى الرغم من أنّ الدولة التركية دولة علمانية، فإنّ نظامها الحاكم ينطلق في تعامله مع شعبه من العمق الثقافيّ الحضاريّ الإسلاميّ لتركيا، والإسلام يؤسس لدولة تقوم على علاقة عقدية بين الحاكم والمحكوم، هذه العلاقة تُبْنَى على القيام بالمسؤولية وأداء الأمانات إلى أهلها؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر مرفوعا: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ …” الحديث، ومن منطلق القيام بالمسؤولية وأداء الأمانة تقوم الدولة بجبر المنكوبين، يقول الإمام الغزالي في كتابه “التبر المسبوك في نصيحة الملوك”: “يجب على السلطان أنه متى وقعت رعيته في ضائقة أو حصلوا في شدة وفاقه أن يعينهم لا سيما في أوقات القحط وغلاء الأسعار؛ حيث يعجزون عن التعَيُّش ولا يقدرون على الاكتساب، فينبغي حينئذ للسلطان أن يعينهم بالطعام ويساعدهم من خزائنه بالمال، ولا يُمَكِّن أحدًا من حَشَمِهِ وخَدَمِهِ وأتباعه أن يجور على رعيته؛ لئلا يضْعُفَ الناسُ”، هكذا يجب أن تكون الدولة لمواطنيها، وإلا فهي بلاءٌ منعقد فوق رؤوسهم.

دولة لا ينقصها إلا معارضة رشيدة

ما جرى من المعارضة التركية في أثناء الأزمة يؤكد أنّها أبعد ما تكون عن السياسة، وما هي إلا كيانات انتخابية محضة؛ بلغت من الشطط إلى حدّ الانفصال التام عن السياسة في الحال والمآل وفي الوسائل والمقاصد، وإلى درجة تكاد تحول الانتخابات من كونها وسيلة إلى كونها مقصدًا وغايةً، وهذا في التوصيف الصحيح: حُمّى انتخابية؛ تُسْتَثمر فيها الحالة الانتخابية لخلق ظروف تمهد لتغيير غير طبيعيّ وغير ديمقراطيّ، وإن ارتدى أَلْبِسَةَ الديمقراطية وأَردِيَتها، فهل يمكن أن تتعلم المعارضة التركية من أخطائها وتمارس السياسة بقدر من الأخلاق؟ فما أحوج تركيا إلى معارضة لا يكون فيها هذا الطيش!

المصدر : الجزيرة مباشر