مفتي عُمان انتقد المسلمين.. وأوجع الإسرائيليين

الشيخ أحمد الخليلي

أثار انتباهي ما كتبه الصحفي والمحلل الإسرائيلي إيدي كوهين، على تويتر مطالبًا مفتي سلطنة عمان الشيخ أحمد الخليلي بالاعتذار لدولة الكيان، قائلًا: “لا سلام ولا تطبيع مع سلطنة عمان قبل أن يعتذر المفتي لليهود ولإسرائيل، وبعد ذلك لكل حادث حديث”، في إشارة إلى أن العرب هم الذين يستجدون التطبيع، وفي إشارة بالغة الدلالة إلى أن بيانات الشيخ الخليلي أوجعتهم، وهي البيانات الرسمية التي تصدر فورًا في أعقاب كل عدوان لسلطات الاحتلال، سواء على الشعب الفلسطيني أو على المسجد الأقصى، حتى إنه استنكر فتح المجال الجوي العماني أمام الطيران المدني الإسرائيلي قائلًا: “كنا نرجو أن يستمر الموقف الصامد الرافض لأي علاقة، ونخشى أن تلي هذه الخطوة خطوات أخرى”.

بالفعل أصبح اسم الشيخ أحمد الخليلي، حديث مواقع التواصل الاجتماعي، في المحيطين العربي والإسلامي، بل ربما حديث الشارع العربي الآن، في أعقاب تفرده الرسمي، عقب الأحداث الأخيرة في فلسطين المحتلة، بتحية المقاومة الباسلة “من أعماق قلوبنا” على حدّ قوله، وقبل ذلك دعوته الأمة الإسلامية إلى حماية المسجد الأقصى من عبث الصهاينة والمتطرفين اليهود، في ظل الحكومة العنصرية الحالية هناك.

القضية لا تزال حية

موقف الشيخ الخليلي، والتفاعل الشعبي الكبير معه، يؤكد من جديد أن القضية الفلسطينية لا تزال حية في قلوب الشعوب العربية والإسلامية، على الرغم من التراجع والهوان الذي أصابها على المستوى الرسمي، وكان ذلك واضحًا في موقف الشارع العربي عمومًا من أحداث جنين بالضفة الغربية المحتلة، التي استشهد فيها تسعة أشخاص، ثم من أحداث عملية الثأر التي نفذها الشاب الفلسطيني علقم خيري بإحدى المستوطنات في ضواحي القدس، ثم أحداث نابلس الأخيرة وتشييع أحد عشر شهيدًا.

ربما كان هذا التفاعل إشارة إيجابية إلى إمكانية إيجاد أرضية مشتركة لحوارات المذاهب الفقهية، المتعثرة في السنوات الأخيرة، نتيجة مشاكل سياسية قفزت إلى الواجهة، وقد اقترحنا من قبل أن تكون عُمان مركزًا لهذه الحوارات لأسباب عديدة، أهمها وجود الشيخ الخليلي نفسه على الساحة، بما له من مواقف افتقدتها دور الإفتاء على امتداد العالم العربي تحديدًا، ذلك أن تحديات المرحلة سياسيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا، تستدعي لمّ الشمل الآخذ في مزيد من التشتت يومًا بعد يوم.

أذكر أن سلطنة عمان قد عقدت عام 2013 سلسلة من حوارات المذاهب هذه، إلا أنها كانت في حدود ضيقة، وفي وقت كان فيه التشدد الواضح من بعض مذاهب دول الجوار لا يسمح بتوسيع دائرة الحوار، لكن الأوضاع الآن اختلفت، وتحتمت إعادة التشاور من جديد على قاعدة مشتركة عنوانها الأول والأخير مصلحة الأمة، التي يهددها الخطر من كل جانب، على أن نضع في الاعتبار أن نجاح حوار المذاهب سوف يؤسس لإنجاح حوارات سياسية عديدة متعثرة الآن، وقبل ذلك سيؤثر في الحوار على الصعيد الإيراني، الذي يعد عاملًا مشتركًا ربما في معظم الأزمات الحالية.

الشيخ أحمد الخليلي اكتسب شعبيته المتصاعدة في العالم العربي، من كونه مشاركًا في كل التطورات الجارية على الساحة أولًا بأول، من خلال بيانات تفاعل واضحة مع الأحداث المتلاحقة، لا تشوبها شائبة من قريب أو بعيد، اعتمد فيها دائمًا على الاستناد إلى النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة، دون تشدد، ودون الانطلاق من مواقف سياسية لحساب هذه الدولة أو تلك، وهو ما أكسب البيانات الصادرة عنه المصداقية التي افتقدها المواطن العربي هنا وهناك.

في الوقت نفسه، تجدر الإشارة إلى أن القارئ للشيخ أحمد الخليلي أو المستمع إليه، لن يكتشف أبدًا إلى أيّ من المذاهب ينتمي الرجل، ذلك لأنه يمثل وسطية إسلامية حقيقية، لا تنحاز إلا إلى النصوص القرآنية والسيرة النبوية، دون غلو أو تطرف من أي نوع، وربما كان لهذا النهج أثره الكبير في الشخصية العمانية بشكل عام، وهي الشخصية التي كانت بمثابة محور أمن واستقرار، في منطقة تعج طوال الوقت بصخب الاختلافات الدينية والسياسية، بل ودوي أصوات المدافع وسفك الدماء.

التفاعل الكبير مع الرجل، أو مع مواقفه، يؤكد أن الشباب العربي يبحث عن قدوة، وأن المواطن العربي يبحث عن قيادة، وأن الشعوب العربية عمومًا تتشوق إلى الاعتدال، وما أزمات التشدد والتطرف إلا حالة طارئة، من صُنع من أرادوا للمنطقة التوتر والتشرذم، وهو الأمر الذي يحتم على المؤسسات المعنية البناء على هذه الحالة الإيجابية، التي يندر تكرارها، وذلك بالدعوة فورًا إلى مؤتمر إقليمي، تشارك فيه كل المذاهب الفقهية دون استثناء، بدعم صريح من الأنظمة السياسية.

دور مؤسسات الإفتاء

أعتقد أن مؤسسات الإفتاء في العالم العربي، والإسلامي عمومًا، بما تضم من علماء أجلاء، لا ينبغي أن يقتصر دورها على التأكد من رؤية الهلال في بدايات الشهور العربية أو عدم رؤيته، مع وجود تطور منقطع النظير في علوم الفلك يحدد ميلاد الأهلة لسنوات طويلة في المستقبل، بما لا يقبل أي شك في هذا المجال، وهو ما جعل دورها (هامشيًّا) في هذا المجال، كما لا ينبغي أن تتذرع بالانشغال بالدور (الاستشاري) في بعض الدول تجاه أحكام الإعدام الصادرة من بعض المحاكم، أو حتى بالإفتاء في الحيض والنفاس، أو عدة المطلقة والأرملة، ذلك لأن كل هذه الأحكام أصبحت متاحة للعامة من خلال المواقع الإلكترونية، وخطباء المنابر في المساجد، وأساتذة الفقه في دور التعليم.

من هنا جاءت الحالة التي تفرد بها مفتي عمان، والتي شملت في الآونة الأخيرة، اعتباره الممارسات الإسرائيلية إعلان حرب، ومساندته قبل ذلك لموقف مجلس الشورى في بلاده حين كان يناقش طلبًا بمقاطعة ذلك الكيان، كما اعتبر أيضًا أن ما يجري في الهند تجاه المسلمين هناك مأساة، وهي الأزمة التي تتجاهلها كل الأنظمة العربية، مثل أزمة مسلمي الإيغور بالصين تمامًا، مستنكرًا حالة السكون السائدة في العالم الإسلامي تجاه هذه القضية، كما أشاد مفتي عمان بالشباب العربي في مونديال قطر، بعد أن رفضوا التعامل مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، وأشاد برفض دولة قطر رفع شعارات ما أطلق عليه “أفحش رذيلة يأباها الشرع”، وأكد أيضًا في بيان منفصل أن ما يسود العالم من أزمات إنما هو بسبب فساد الأنظمة التي تسوده، محذرًا من دمار شامل، ومحن لا مخرج له منها.

وإذا وضعنا في الاعتبار تراجع دور الأحزاب السياسية في العالم العربي، وتراجع دور النخبة السياسية عموما، ودور وسائل الإعلام، نتيجة عوامل عديدة، فإنه يصبح من الطبيعي أن يتقدم الصفوف علماء الأمة، خصوصًا في أوقات الشدة، التي أضحى الخوف عنوانها الرئيسي، والمصالح الآنية والفئوية مقدمة فيها على الصالح العام، مع التأكيد على أن التاريخ الحديث والقديم حافلان معًا بعشرات ومئات العظماء من رجال الدين الذين قادوا المسيرة، في مواجهة الاحتلال والطغيان في آن واحد.

المصدر : الجزيرة مباشر