كتب التفسير والتيسير في الفقه والفتوى

هناك ملحوظة علمية خرجنا بها بعد طول بحث في كتب تفسير القرآن، وقد خرج بها علماء كبار في البحث، لكنهم لم يدونوها، أو ينصوا عليها بوضوح، بل تركوها في تفاصيل ومواقف وفتاوى فردية، يمكن الوصول إليها عن طريق تتبع مواقفهم وآرائهم الفقهية. هذه الخلاصة البحثية، تتعلق بالباحث أو الفقيه عندما يتناول مسألة ما، سواء كانت حديثة أم قديمة، فإنه بعد أن يرجع إلى كتب المذاهب، نراه يذهب إلى كتب التفسير، وغالبا يذهب إلى كتب يتبع أصحابها مذاهب معينة، وبخاصة كتب تفسير الأحكام، مثل: تفسير القرطبي، وهو مالكي، أو أحكام القرآن لابن العربي، وهو أيضا مالكي، أو كتاب أحكام القرآن للجصاص، وهو حنفي المذهب، أو الكيا الهراسي وهو شافعي، أو غيرها من كتب التفسير التي عُنيت بتناول آيات الأحكام.

الملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا هي أنه رغم ثقتنا الكاملة بكل هؤلاء الأئمة الكبار وسعة علمهم فإن كتبهم تدور في فلك المذاهب الفقهية، أو المشهور منها في الغالب، ولا تتناول الآراء الأخرى لفقهاء ومذاهب اندثرت، إلا لماما، ولا تذكرها من باب التبني، بل من باب المرور عليها مرور الكرام، كرأي موجود في المسألة، لكن التركيز والترجيح والتناول الدقيق بشكل مسهب يكون لما تبنته المذاهب الفقهية.

العودة إلى كتب التفسير قبل المذاهب الفقهية

الخلاصة التي لا بد من نقلها إلى الباحثين في المجال الفقهي هنا هي أنه بجانب هذه الكتب التي تنتمي لمدارس ومذاهب فقهية، ينصح أولًا بالرجوع إلى كتب التفسير التي كُتبت قبل المذاهب، أو التي لا تنتسب لمذهب، فغالبا سيجد فيها الباحث ثراءً في العرض، وتغريدًا خارج أقوال المذاهب المعتمدة الأربعة، وستفتح له آفاقا جديدة في الفقه والفتوى يحرم نفسه منها بعدم الرجوع إليها، وهو ما رأيناه في كثير من القضايا الفقهية التجديدية عند فقهاء كبار سابقين أو معاصرين، فعند تأمّل آراء هؤلاء الفقهاء سنجد أنهم فعلوا ذلك.

وحتى يتضح كلامي أذكر هنا نماذج لقضايا عندما أراد علماء معاصرون التجديد الفقهي فيها ذهبوا إلى هذه الآراء، سواء من خلال الرجوع لكتب التفسير التي تنقل آراء الصحابة، أو التابعين، ومن يليهم مباشرة، أو عن طريق النظر في النص القرآني الكريم من خلال قواعد فهمه.

كلام ابن قتيبة عن الخوارج والرجم

وقد وجدنا هذه النظرة المنصفة، التي تنظر إلى النص والموضوع بعيدا عن قائله، حتى لو خالفه في توجهه الفقهي، عند أكثر من إمام. وقد كانت شجاعة كبرى من الإمام ابن قتيبة الذي عرض لرأي الخوارج الرافضين للرجم، وقولهم إنه ليس حدا، فقد قال في معرض رده على الخوارج في رفضهم للرجم، بحجة قوله تعالى: {فإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (النساء: 25) “إن المحصنات لو كن في هذا الموضع، ذوات الأزواج، لكان ما ذهبوا إليه صحيحا، ولزمت به الحجة وليس المحصنات ههنا إلا الحرائر”، فقد تعامل مع الموضوع بناء على ما يعطيه النص القرآني، واحتمال صحة قول من يخالفه الرأي، إذ إن النص وتفسيره يعطي أكثر من مدلول، وإن تبنى جهمور الفقهاء رأيا معينا هو الثابت لديهم.

هل شهادة المرأة وديتها نصف الرجل؟

ومن القضايا الفقهية التي ظل الرأي المعمول به فيها هو ما دُوّن في الكتب الفقهية المذهبية، ما يتعلق بشهادة المرأة، وديتها، وهذا ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة، بأن دية المرأة نصف دية الرجل، وكذلك شهادتها، فبنوا رأيهم في شهادة المرأة على قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ( البقرة: 282).

وقد ذهب الشيخ محمد عبده، والشيخ محمود شلتوت إلى أن الآية هنا تتحدث عن حالة مجتمع، وليست عن حكم ينسحب على كل أحكام شهادة المرأة، حيث إن المرأة العربية لم يكن لها اهتمام بقضايا التجارة، ولا خبرة بها، فالآية تحدثت من باب الاستيثاق وضمان الحقوق، وليس على عمومية أن شهادة المرأة دائما نصف الرجل، واستدل الدكتور محمد عمارة على هذا الرأي بآية من القرآن الكريم، وهي آية اللعان، حيث إن الرجل يلاعن امرأته بأن يشهد بالله أربع شهادات، وكذلك المرأة ترد عن نفسها بنفس العدد أربع شهادات.

أما دية المرأة، فقد قال أبو بكر بن الأصم، وابن علية، بأنها متساوية مع دية الرجل، وهو ما ذهب إليه علماء معاصرون كذلك، كالشيخ شلتوت، والشيخ الغزالي، والشيخ القرضاوي، وغيرهم، لعموم النصوص القرآنية التي تساوي بين الرجل والمرأة في الحدود والدماء.

الزواج بالصينيات واليابانيات

ومن الفتاوى التي استندت إلى كتب التفسير فيما قبل المذاهب، فتوى الشيخ محمد رشيد رضا، حين أفتى في مجلة (المنار)، و(تفسير المنار) كذلك، بجواز أن يتزوج المسلم الذي يقيم في الصين واليابان، باليابانية أو الصينية غير الكتابية، فمن المعروف أن أهل الصين واليابان ليسوا أتباع أديان سماوية في غالبهم، بل منهم البوذي، ومنهم غير المنتي لديانة، ولما سُئل رشيد رضا سؤالا من أحد المقيمين هناك من المسلمين، عن حكم الزواج بنسائهم، أجابه بالجواز، وناقش الآراء التي تمنع ذلك لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221)، مستدلا بأن الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، فسر النهي هنا بأنه مقصود به مشركات جزيرة العرب، حيث إن لهن أحكاما خاصة، ومال إلى هذا الرأي الطبري، ومعروف أن الطبري صاحب مذهب فقهي، فضلا عن أنه مفسر كبير، وشيخ المفسرين، فأخذ من هذا الرأي رشيد رضا فتواه بجواز ذلك.

وهناك قضايا فقهية أخرى كثيرة جدا في هذا الباب، تدل بوضوح على أن من تبنى مثل هذا الرأي الفقهي، رجع إلى كتب التفسير غير المذهبية، أو إلى كتب السنة التي نقلت تفسيرات الصحابة والتابعين لآيات الأحكام.

منهج صحيح تمت ممارسته

وليس معنى كلامنا في هذا المقال الدعوة إلى نبذ المذهبية الفقهية، ولا اتهامها، بل هو دعوة إلى اتساع رؤية المفتي والفقيه عندما يبحث في القضايا الفقهية بوجه عام، والمعاصرة بوجه خاص، بأن تتسع دائرة بحثه ونظره، إلى كتب التفسير فيما قبل المذاهب، وما بعدها، ولا يحصر نفسه في إطار كتب المذاهب، ما دام الدليل الفقهي يتسع لذلك، فالإسلام تعبدنا بالنظر والاجتهاد في الرأي، ولم يتعبدنا بالتقليد المذهبي، بل هي مدارس فقهية ينبغي الاستفادة منها.

وقد رأينا هذه الممارسة عمليا عند فقهاء كبار معاصرين، عندما مارسوا الاجتهاد الفقهي، فوجدوا بعض التضييق لدى المدارس المذهبية في بعض المسائل، ولم يكن لهم مسلك ينطلقون منه للتجديد سوى ذهابهم إلى هذه الكتب التي كُتبت قبل التقليد الفقهي للمذاهب، أو من خلال كتب السنة التي تعنى بذكر أقوال الصحابة المختلفة، فقد رأينا ذلك عند ابن تيمية، وابن القيم، وعند المعاصرين بداية من محمد عبده، وانتهاء بالقرضاوي، لأن البحث الفقهي لا يقف عند مدرسة بعينها.

وقد أصّل لهذا التوجه الإمام الرازي فوضع قاعدة مهمة في التعامل مع القرآن الكريم سواء في مجال التفسير أو البحث الفقهي، فقال: “بينّا في أصول الفقه: أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز”. ونقلها نقل المقر لها كل من سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني في تفسيره، والألوسي في تفسيره. وكذلك نقلها الشيخ رشيد رضا، وأضاف لها ما يحكمها ويضبطها، فقال في تفسير المنار: “ثبت في الأصول أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن، ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد، بشرط ألا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها”.

المصدر : الجزيرة مباشر