أخي أيها العربي الأبي.. متى تستعيد ذاكرتك؟

الموسيقار محمد عبد الوهاب

احتل نشيد أخي جاوز الظالمون المدى -الذي غناه محمد عبد الوهاب- مكانة مهمة في وجداني؛ لأنه يعبر عن أشواقي إلى مجد العروبة؛ فأنا أفخر بأصلي العربي، وأعتقد أن الشخصية العربية تستطيع أن تبني المستقبل على قواعد الحرية والعدل والاستقلال الشامل؛ عندما يستعيد العربي ذاكرته.. فالذاكرة من أهم مصادر قوة الإنسان، ومن أعظم نعم الله عليه، عندما تتحول الذكريات إلى دروس تحفز الإنسان لتقديم إنجازات حضارية عظيمة.

ولكن من أين نبدأ؟!

تأمل معي -أخي العربي- تلك الذكرى من تاريخ بعيد؛ حيث كان النعمان بن المنذر ملكا على منطقة في العراق يطلقون عليها “الحِيرة”، وكان تابعا لكسرى، خاضعا له، ويستند على قوته في حماية عرشه، وكان يتولى نيابة عن كسرى إخضاع القبائل العربية، وإرهابها بقوته الغاشمة.

وكان النعمان يخوض مع كسرى كل حروبه، التي ضحى فيها بأرواح الكثير من فرسان العرب، وكان طاغية مستبدا يتعامل مع العرب بقسوة شديدة؛ لذلك لم يتذكر العرب شعرا في مدحه؛ بالرغم من أن بعض الشعراء المنافقين اضطروا إلى مدحه؛ ليحصلوا منه على بعض المال الذي كان يكتنز منه الكثير.

العربي هو الذي يحمي العرض!

لكن كسرى علم أن للنعمان بنتًا جميلة؛ رآها شاعر يوما فوصف جمالها؛ فهام كسرى بها حبًّا؛ وأرسل إلى النعمان يخطبها منه.. فماذا يفعل؟

أرسل النعمان إلى قبائل العرب يعرض على أي شاب عربي أن يتزوج ابنته، وعندما لم يستجب أحد؛ وجد رجلا عربيا فقيرا يرعى إبلا له في الصحراء، فعرض عليه أن يتزوج ابنته؛ وعندما قبل زواجها، طلب منه أن يأخذها، ويبتعد بها في صحراء العرب إلى أبعد مكان؛ حتى لا يستطيع كسرى أن يصل إليها.

ماذا يعني ذلك؟ وجه النعمان رسالة تاريخية إلى العالم من أهم معانيها أن هذا الشاب العربي الفقير أفضل من كسرى، وأن عروبته أهم مميزاته؛ فهي تؤهله للمجد، وتجعله كفؤًا لابنة النعمان، وأنه يعتز بهذا النسب الشريف؛ لأنه يدرك عظمة أصل العربي؛ فهذا الأصل الكريم يجعله يموت دفاعا عن عرضه؛ فهو يعرف قيمة الشرف والكرامة والنخوة والمروءة.

لذلك فضل النعمان أن تعيش ابنته في خيمة في الصحراء، تحلب شاتها، في ظل زوج عربي كريم يحمي عرضها.. تلك الخيمة -من منظور النعمان- أفضل لابنته من كنوز كسرى، وإيوانه وقصوره، وهذا العربي الفقير أعظم أصلًا، وأعلى قيمة وفضلًا من كسرى وجيشه.

النعمان يدرك قيمة الأصل والشرف، ويعلم أن العربي حرّ كريم يأبى الضيم، ويرفض الدنية؛ لذلك يأمنه على ابنته؛ ففي خيمة هذا الرجل العربي ستعيش ابنته سيدة مصونة حرة.

أما الفتاة فأقرت رأي أبيها، وفضلت العربي الفقير على كسرى؛ فالعربية تدرك قيمة الأصل والشرف؛ ومضت مع زوجها إلى أقصى صحراء العرب لتعيش في خيمة بعيدا عن المدن وما فيها من رفاهية وترفيه.

لم يعرف أحد ماذا حدث للفتاة، ولكن بعد عشرات السنين شارك أحفادها في إنقاذ البشرية من ظلم كسرى وإمبراطوريته الفارسية؛ وربما يكون من أحفادها من أخذ بثأر جدهم النعمان الذي قتله كسرى لأنه رفض مصاهرته.

هذه الفتاة نموذج للعربية الحرة التي تعرف معاني الشرف والحرية والسيادة والفروسية والأصالة والمجد والعروبة.

في ضوء التاريخ!

تلك قصة من ملايين القصص التي يمكن أن تعيد لنا الذاكرة؛ فتجعل قلوبنا تشتاق إلى أيام الفروسية والسيادة والعزّ.

وأنا أكره الطغاة، وأعلم أن النعمان مستبدّ طاغية لم يحقق إنجازا حضاريا.. لكن موقفه ذاك يمكن أن يشحذ ذاكرتنا، فندرك أن الأصالة من أهم مصادر القوة، وأنها يمكن أن تدفعنا إلى استعادة مجدنا، والثورة ضد الاستبداد والاستعمار، وأن نحدد أهدافا عظيمة لحياتنا.

هذا الموقف دفعني إلى التعاطف مع النعمان؛ فإدراكه لشرف العروبة، وأهمية الأصالة يشكل له مجدا، والدرس الذي قدمه لنا، يمكن أن يجعلنا ننتفض دفاعا عن الحرية والكرامة والسيادة والشرف، فنعلم العالم أن العربي لا يستطيع أحد أن يستعبده بالمال والترف وثقافة الاستهلاك والمظاهر التي تغطي حالة الذل والانكسار.

الحرية أغلى من الحياة

بنت النعمان علمتنا كيف نقوم بصياغة مواقفنا وتفضيلاتنا، فالحرية أغلى من الحياة، والعربي يجب أن يكون حرا، ومقاتلا من أجل الحرية، ومحررا للبشرية من الطغيان والاستبداد والعبودية لغير الله.

هذه المرأة العربية كانت مؤهلة لإنجاب فرسان يرفعون راية الإسلام، وينقذون البشرية من طغيان كسرى وقيصر، ويحطمون الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، ومن المؤكد أن هناك ملايين من النساء العربيات في عالمنا مثل هذه المرأة.

كان لحياة هذه المرأة قيمة وأهمية، ويمكن أن يكون الدرس الذي قدمته لنا نقطة انطلاق لبناء المستقبل، فيعلن أحفادها للعالم: لنا الصدر دون العالمين أو القبر، وأن الخيار الوحيد أمام العربي: إما أن يعيش سيدا أبيا كريما، أو أن يموت شهيدا.

وعندما نستعيد ذاكرتنا، ونحول قصص أجدادنا إلى ثروة فكرية وعلمية وأدبية، وإلى أفلام ومسلسلات وروايات، فإننا يمكن أن نغير الواقع، ونبني عالما جديدا.. فهل يمكن أن نجد من أغنياء قومنا من يقوم بإنشاء قناة للدراما العربية نستخدمها في إعادة الذاكرة لأمتنا بتقديم سيَر رجال يمكن أن تضيء إنجازاتهم الحضارية طريق المستقبل، كما فعل الأتراك عندما حولوا قصص أبطالهم إلى مصدر للقوة؟!

المصدر : الجزيرة مباشر