هيكل.. الجورنالجي والسياسي

ما أن يظهر اسم محمد حسنين هيكل -التي مرت ذكرى وفاته السابعة الأسبوع الماضي- في أي وسيلة إعلام أو على صفحات التواصل الاجتماعي، حتى تشتعل المعارك.

الرجل الذي كان ملء السمع والبصر على مدار عمره الطويل سواء كان قريبًا من السلطة أو مشاركًا في صنع القرار كما في عهد جمال عبد الناصر، والسنوات الأربع الأولى في عصر أنور السادات، التي انتهت به سجينًا مع كل التيارات السياسية في قرارات سبتمبر الشهيرة عام 1981، أو في عصر مبارك بإنجازه الكبير في الكتب السياسية التي نشر أغلبها خارج مصر، أو بعد ثورة يناير كرجل لجأت إليه كل التيارات السياسية المصرية كرجل قامة كبيرة، أو بعد 30 يونيو ومقولته الشهيرة عن “مرشح الضرورة”، ثم بعد ذلك حينما طالب النظام بالثورة الداخلية على نفسه، وقبل رحيله حينما أدار ظهره للنظام.

فالأستاذ كما يطلق عليه محبوه، والكاهن كما يطلق عليه كارهوه موضع جدل دائم لا ينتهي، هناك من يحمّله مسؤولية قرارات جمال عبد الناصر كلها، سواء بالسلب أو الإيجاب، وهناك من يحمّله مسؤولية مجيء أنور السادات للسلطة (أنا منهم)، وهناك من يحمّله ما حدث في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل هذا يظل اسم محمد حسنين هيكل علمًا مصريًا في الصحافة المصرية والعربية، ومؤرخًا لم يمتلك أحد في مصر والعالم العربي وثائقه، ولا مساحات علاقاته السياسية عالميًا وعربيًا.

هيكل صديق الملوك والرؤساء وموضع أسرارهم، هو هيكل المخبر الصحفي في أربعينيات القرن العشرين، صاحب الخبطات الصحفية التي لا يراها إلا من يحكم بعواطفه المندفعة، هو نفسه هيكل أصغر رئيس تحرير مصري قبل ثورة يوليو 1952، هيكل هو صديق جمال عبد الناصر وربما شريكه في حلمه، هو أيضًا من دفع ثمن معاداته لسياسات أنور السادات ومن جاء بعده.

إنه جدير بالاختلاف عليه وإعادة قراءة منتجه الإعلامي والسياسي، سواء في إدارة مؤسسة بحجم الأهرام التي بناها هيكل في عصر كان شعاره البناء، أو فيما قدّم بعده من إنتاج وثائقي مهم في الكتب التاريخية.

هيكل وعبد الناصر

التقى هيكل وناصر كما تقول الوثائق كلها قبل يوليو وتحديدًا بعد حرب فلسطين، وجد كلاهما الآخر الذي يريده، عبد الناصر القارئ الدؤوب الذي يحلم بأمة هو زعيمها وبثورة على الأوضاع القائمة ومن أجلها ذهب إلى كل التيارات السياسية بحثًا عن خلاص، وهيكل الذي ربما يحلم بصناعة تاريخ في عالم يتغير، التقى الثنائي إذن كلًا يكمّل الآخر، وهكذا كانت صداقة وشراكة استمرت لوفاة ناصر.

سنوات طويلة الجورنالجي النابه لا ينسى أنه صحفي ولا تفوته لحظة صحفية، فالتاريخ يصنع أمام عينيه، لذا كان الصحفي حاضرًا دائمًا، لم يترك هيكل وثيقة في العصر الناصري إلا حصل على نسخة منها.

لم ينس أنه صحفي وإن كان رئيسًا لتحرير أكبر صحيفة عربية الأهرام، يحاور الرؤساء والزعماء، ينشر ما يمكن نشره ويحتفظ للتاريخ بما يحتفظ، أعاد هيكل الصحفي بناء الأهرام وجعلها مؤسسة كبيرة، أنشأ مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، تخرج فيه كل علامات الصحافة الرصينة على مدار سنوات، كانت أهرام هيكل هي أهرام سلامة أحمد سلامة، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، محمود أمين العالم، فهمي هويدي، عبد العظيم حماد، أعداد لا تنتهي من الصحفيين الكبار.

شارك هيكل عبد الناصر التفكير في قرارات تاريخية، نعم، من في الجماعة الصحفية يكون قريبًا من صناعة القرار ويؤخذ رأيه ولا يقول، من فينا يستطيع أن يكون في لحظة تاريخية عالمية ويتخلف عنها؟

هيكل كان بحجم اللحظة التاريخية، زعماء من كل العالم، استعمار قديم يرحل، شعوب ثائرة، عالم يتجدد، نهرو، تيتو، غاندي، ناصر، جيفارا، بن بيلا، كل زعماء العالم وصحفي بحجم هيكل موجود، إنه التاريخ يصنع، وهو الجورنالجي المتميز.

هل يتحمل هيكل قرارات عبد الناصر؟ اعتقادي أن الوحيد الذي يتحمل مسؤولية أي قرار في العصر الناصري هو جمال عبد الناصر ولا أحد غيره.

الكتب التاريخية لهيكل

قدّم هيكل للمكتبة العربية ما دون الـ50 كتابًا كان أولها كتاب إيران فوق البركان بعد رحلة لإيران استمرت شهرًا، ومن أشهر كتب هيكل سنوات الغليان، حرب الثلاثين سنة، ملفات السويس، مدافع آيات الله، زيارة جديدة للتاريخ، خريف الغضب، المفاوضات العربية الإسرائيلية، قصة السويس، أزمة العرب، عند مفترق الطرق، ولمصر لا لعبد الناصر، أهم ما يميز هذه الكتب جميعًا هي الوثيقة، أمام الوثائق تختفي كل الأقاويل، وتتداعي الشبهات، هي وثيقة اختلف معها كما شئت، اعترف بها أو انكرها، كن معها أو ضدها، لكنها تنهي كل خلاف حول الواقع الذي حدث.

أخيرًا

اختلف كما شئت مع هيكل، حمّله ما شئت من خطايا تراها بعينك أو بعقلك، لكن حين تمضي لتحكم عليه لا تحاسبه سياسيًا، حاكموا محمد حسنين هيكل صحفيًا فقط، جورنالجي صنع تاريخًا صحفيًا مهمًا، ومؤرخًا تاريخيًا قدّم للمكتبة العربية كل سطر في كتبه بوثيقة، لك أن تقبل محتواها أو ترفضه، تتفق معها أو تنكرها.

لكن أن تعيب على هيكل أنه كان قريبًا من مراكز صناعة القرار في العالم، فهذا تجنٍ على التاريخ، وأن كنت صحفيًا تخيل نفسك في صحبة هؤلاء وأخبرني ماذا ستفعل؟ ألم نكتب كلنا وقائع أحداث عشناها الآن، الفارق أن هناك جورنالجيًا أمسك بالوثيقة، وآخرين ليس لديهم سوى كلام مرسل، والآن هيكل بين يدي التاريخ كما عبد الناصر، وكما آخرون، أما نحن فنواجه واقعًا كان هيكل بعيدًا عنه كما عبد الناصر نصف قرن، فلا تحمّلوا الآخرين تكاسلنا وخطايانا.

المصدر : الجزيرة مباشر