ديكتاتوريات غريبة الأطوار، نيكاراغوا مثالا

الرئيس وزوجته التي هي نائبته في الوقت نفسه

ارتبطت صفات الديكتاتوريين غالبًا في القديم بالجبروت والطغيان والتنكيل بالشعوب من أجل تحقيق غاية شخصية أو أممية عليا، لكن بعض ديكتاتوري المرحلة المعاصرة عبثوا بـ”هيبة” الديكتاتوري، وأصبحت شخصية الديكتاتور في بعض الحالات، على ظلمها الجائر، مثيرة للسخرية والتهكم، بسبب عدم تطابق طبيعة الشخصية مع المنصب، وفي أمريكا الوسطى دانييل أورتيغا ديكتاتور نيكاراغوا، نسخة فريدة من نوعها، لاسيما بعد قراره تجريد أكثر من 300 من خصومه من جنسيتهم، ومصادرة ممتلكاتهم.

بلد تديره أسرة

قبل استعراض مسيرة هذا الديكتاتور، وأدائه السياسي الغريب، دعونا نُشير إلى بعض المعطيات الأساسية الكفيلة بإظهار هذه الحالة الاستثنائية، خاصة وأن أخبار نيكاراغوا السياسية أصبحت حاضرة مؤخرًا في الأخبار الدولية، وحتى الناطقة بالعربية منها. فأورتيغا البالغ من العمر 78 عامًا، يحتكر منصب الرئاسة منذ عام 2007 حتى اليوم، دون انقطاع، زيادة على مدة سابقة ما بين 1985 و1990، والطريف أن الرجل، وبعد سنوات دأب فيها على تعيين أفراد من عائلته في المناصب الاستراتيجية، بلغت به الجرأة السياسية عام 2017، إلى تعيين زوجته المتجبرة روساريو موريّو، في منصب إحدى نائبيه الثلاث، لتكون نيكاراغوا بذلك بلدًا تُديره أسرة، ولم تقف الجرأة في هذا المستوى، حيث أن أورتيغا لا يخفي سعيه لتقلدها منصب الرئاسة بعده نظرًا لأنها تصغره بست سنوات.

الغريب في حالة نيكاراغوا، أن أورتيغا بدأ حياته السياسية منذ المراهقة في الحركات النقابية، ثمّ مناضلًا شابًا في جبهة التحرير الوطني من الهيمنة الأمريكية، ومندّدًا بالديكتاتورية التي حكمت البلاد لأربعة عقود، وتمكن من الفوز بالرئاسة عام 1985، إيمانًا من ناخبيه بأنه الخيار الأفضل في تلك المرحلة، لاسيما وأن أمريكا اللاتينية عاشت أبهى أمجادها الثورية في نهاية القرن الماضي وبداية الحالي، وكان أورتيغا يتباهى بأنه يسير على خطى كاسترو في كوبا وتشافيز في فينزويلا. غير أن فترة انتخابية واحدة قلبت أفكار الرجل وطموحاته، فتحوّل بدوره إلى ديكتاتور مكشوف النوايا، وفشل بذلك في كسب ثقة الناخبين في جميع المحطات الرئاسية التي ترشح لها قبل 2007.

فضيحة مدوية

لقد اقترف أورتيغا حماقات سياسية تعدّ ولا تحصى في سنواته الأخيرة، لكن ما فعله هذا الشهر، مثّل فضيحة مدوّية، حيث أمر القضاء بتجريد 94 من خصومه من الجنسية والذين تمكّنوا من مغادرة نيكاراغوا، وجرّدهم من جميع حقوقهم المدنية إلى الأبد، ناسبًا لهم تهمة “خيانة الوطن”، وفي خطوة أسوأ، قام بنقل 222 من الشخصيات السياسية والثقافية والإعلامية والدينية المُعارضة له، بمن فيهم 5 مرشحين سابقين للرئاسة في انتخابات 2021 الأخيرة، من السجن الذي كانوا يقيمون فيه قسرًا نحو طائرة لم يعلموا وجهتها، إلى حين حطت بهم في التراب الأمريكي، حيث علموا آنذاك أن الرئيس أورتيغا جرّدهم من جنسياتهم أيضًا، واتفق مع السلطات الأمريكية على شحنهم إلى أراضيها كمحطة إقامة مؤقتة، إلى حين يقررون أين يذهبون؟ وقد وضّحت الخارجية الأمريكية على إثر هذه الواقعة، أنها وافقت على استقبال هؤلاء السجناء المجردين من جنسية بلادهم حماية لهم، واستبشارًا بإمكانية الحوار مع حكومة نيكاراغوا.

وتجدر الإشارة إلى أن الأسقف رونالدو ألفاريز، الذي كان من بين الـ222 سجينًا، امتنع عن امتطاء الطائرة مع الباقين، شرط معرفة الوجهة، وما كان من قضاء الرئيس أورتيغا إلا إطلاق حكم عاجل بشأنه تمثل في عقوبة نافذة بـ26 سنة سجنًا.

على صعيد آخر، شهدت ردود الفعل الدولية إزاء هذه الحادثة، زخمًا غير مسبوق، حيث وعدت حكومة بيدرو سانشيز بمنح الجنسية الإسبانية لعدد لا بأس به من الشخصيات اللامعة، في القائمتين، وكذلك فعل رئيس التشيلي، ورئيس كوستا ريكا وبعض الحكومات الأخرى. أمّا موقف الحكومات اليسارية في أمريكا الجنوبية فقد كان صادمًا للرأي العام، حيث اكتفت الأرجنتين والبرازيل ببيانات جوفاء، ووسطيّة مُقنعة من جانب كولومبيا، وصمت ذريع من المكسيك.

زوجة الرئيس تقول:

الغريب في الأمر، أن زوجة الرئيس أورتيغا روساريو موريّو ونائبته في الوقت نفسه، تصدّرت هذه الخطوة بكل فخر وصرّحت بأنها من سعت لتنفيذها، إيمانًا منها وزوجها الرئيس بأن المعاقبين “خونة”، ولا يستحقون أن يطؤوا تراب نيكاراغوا، والحال أن موريّو كانت قبل فوز زوجها برئاسة البلاد في 1985، كاتبة وشاعرة ومناضلة مع هؤلاء “الخونة”، ضد ديكتاتورية أسرة سونوزا التي استبدت بحكم نيكاراغوا من 1937 إلى 1979. في المقابل، يقول ناقدوها، إن هذه المرأة تنازلت في الماضي عن حكم قضائي ضد الرئيس أورتيغا الذي كان قد اتهم باغتصاب إحدى بناتها من رجل آخر، من أجل المنصب والمال، فلا عجب إذن أن تتنكر لرفاقها في النضال السياسي!!

قد يعتقد نظام أورتيغا أن قبضته الأمنية ما زالت نافذة إلى حين الانتخابات القادمة في 2026، لتفوز روساريو موريّو بالرئاسة وتواصل مشوار زوجها، غير أن الأجواء داخل نيكاراغوا لا توحي بنجاح هذا المخطط مجددًا، حيث أن الغضب الشعبي أصبح لا يبالي بأساليب وعقوبات القبضة الحديدية للنظام، بل أنه يروّج لسقوط النظام بأكمله قريبًا، بسبب تماديه في البطش، رغم ضعفه الشديد من الداخل.

 

المصدر : الجزيرة مباشر