زلزال تركيا.. قراءة في المشهد وتداعيات أزمة كارثية

الدولة التركية كانت حاضرة منذ الساعات الأولى.

 

 

زلزال قهرمان مرعش، زلزال القرن، كارثة عظمى، تداعياتها لا حصر لها، ولا تقف عند حدود الخسائر البشرية والمادية فحسب، ولكن لها تأثيراتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، إضافة إلى التداعيات السياسية على الداخل التركي، وفي منطقة ذات خصوصية، تمثل ساحة نفوذ وحلبة صراع لقوى إقليمية ودولية مختلفة.

أكبر كارثة تشهدها تركيا منذ عام 1939، هكذا كان وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للزلزال في الساعات الأولى من حدوثه، ولكن الواقع الذي تكشف بعد ذلك يتجاوز الوصف بمراحل، فحجم الدمار الكارثي في المناطق التي ضربها الزلزال أشبه بدمار تحدثه القنابل الذرية، ومن يشاهد الدمار على أرض الواقع، أو عبر الشاشات يقفز إلى ذهنه ذلك الدمارَ الذي لحق مدينتي “هيروشيما ونجازاكي” في اليابان، عقب ضربهما بقنابل ذرية أمريكية.

وبالنظر إلى حجم المنطقة التي ضربها زلزال مرعش، فليس بمستغرب أن تعادل الطاقة المنبعثة من الزلزال الذي ضرب تركيا طاقة 500 قنبلة ذرية، بحسب تصريحات أورهان تتار، المدير العام للزلازل والحد من المخاطر في إدارة الكوارث التركية.

وقياسًا على زلزال أرزنجان، الذي ضرب تركيا عام 1939، واعتبر أخطر كارثة تتعرض لها البلاد في القرن العشرين، ونتج عنه وفاة أكثر من 32 ألف شخص، وإصابة حوالي 100 ألف آخرين، فإن زلزال قهرمان مرعش بالنظر للمنطقة الجغرافية التي ضربها يتجاوز في آثاره زلزال أرزنجان.

العالم العربي واختبار الاستجابة لنداء الإنسانية

منذ اللحظات الأولى للكارثة العظمى لزلزال تركيا خضعت دول العالم لاختبار كاشف لمستوى الاستجابة لنداء الإنسانية، نجحت فيه الكثير من الدول، خاصة الدول العربية والإسلامية.

لقد توارت أمام كارثة الزلزال أزماتٌ سيطرت على المشهد العالمي طوال الشهور الماضية، وشهد العالم انتفاضة دولية بدوافع متعددة، في مقدمتها الدافع الإنساني، وإن اختلفت مستويات الاستجابة فيها بين دول وأخرى، وكانت الدول العربية والإسلامية الأسبق والأسرع استجابة، ونجحت في اختبار تلبية نداء الأخوة والإنسانية بامتياز منذ اليوم الأول للكارثة.

وقد بادرت الدول العربية لإرسال مساعدات لتركيا وللمناطق المنكوبة في الشمال السوري، وكانت دولة قطر أول المبادرين والأسرع في الاستجابة لدعم تركيا والمناطق المنكوبة منذ اللحظات الأولى، وفي مقدمة الدول الخليجية الأكثر ملاءة، السعودية والإمارات والكويت، والتي هرولت جميعها لمساعدة منكوبي الزلزال، كما بادرت أيضًا سلطنة عمان ومملكة البحرين، لإرسال المساعدات إلى تركيا.

وقد جاءت زيارة أمير قطر أول زعيم في العالم يزور تركيا، ويلتقي الرئيس أردوغان بعد الزلزال، لتحمل معاني ودلالات ذات مغزى على صعيد العلاقات بين البلدين.

وقد كان لافتًا في تلك الأزمة الاستجابة اليونانية، حيث كان الزلزال فرصة للتقريب بين تركيا واليونان، ووضع خلافاتهما جانبًا، وقد زار وزير الخارجية اليوناني المناطق المنكوبة بالزلزال في تركيا، رفقة نظيره التركي، وتعد هذه الزيارة هي الأولى لوزير أوربي منذ كارثة السادس من فبراير/شباط 2023، في خطوة تحمل دلالات ديبلوماسية، في ظل كارثة تؤكد أن وحدة المصير ربما تكون أقرب من استمرار الصراع.

وعلى الرغم من الخصومة التاريخية بين اليونان وتركيا، إلا أن هناك توافقًا وتقليدًا تاريخيًا بين البلدين على تبادل المساعدات في مواجهة مثل هذه الكوارث.

الغرب وأزمة كاشفة

وعلى المستوى الأمريكي والأوربي، تنوعت الاستجابات بين إرسال العديد من فرق المساعدة، وأدوات ومعدات، ووعود ببعض المساعدات المالية.

وبالنظر إلى حجم الكارثة، والتي خلفت آثارها على ما يقارب 23 مليون نسمة في كل من تركيا وسوريا، فإن حجم الاستجابة الغربية -الأمريكية والأوربية- يعد ضعيفًا وبطيئًا ولا يتناسب مع حجم الكارثة وتداعياتها، ويعكس ذلك حجم ما أُعلن عنه من مساعدات مالية متواضعة للغاية، والتعاطي الرسمي والإعلامي، إذ كان الواضح أن كارثة الزلزال لم تكن في صدارة الاهتمامات.

مليارات للأسلحة وبضعة ملايين للمساعدات

ففي الوقت الذي يواصل الغرب إعلان استمرار ضخ مليارات الدولارات مساعدات عسكرية لأوكرانيا في الحرب ضد روسيا، نجد الإعلان عن مساعدات للمتضررين من أكبر كارثة زلزالية في هذا العصر لا يتجاوز بضعة ملايين.

وفي مقال له حول موقف الحكومة البريطانية، عقد الكاتب الصحفي ديفيد هيرست مقارنة في هذا الصدد بين 2.3 مليار جنيه إسترليني من الأسلحة مساعدات بريطانية إلى أوكرانيا، و5 ملايين جنيه إسترليني من التبرعات العامة أُعلن عنها لإغاثة نحو 23 مليون شخص في تركيا وسوريا.

لقد كشف مستوى استجابة الدول تجاه كارثة الزلزال أن الظهير الحقيقي لتركيا هو في العالم العربي والإسلامي، وليس في أوربا التي رسبت طوعًا في اختبار مستوى الاستجابة تجاه الكارثة الإنسانية التي خلفها الزلزال.

على صعيد إدارة الأزمة في تركيا

عادة ما تكشف الأزمات صلابة الدول من هشاشتها، وتعد طريقة وسرعة التعامل مع الأزمات، خاصة الناتجة عن الكوارث مؤشرًا على مستوى صلابة الدولة، من خلال ما تنفّذه من خطط واستراتيجيات، واستغلال للموارد المتاحة لمعالجة تداعيات تلك الكوارث.

على صعيد إدارة أزمة الزلزال بدا واضحًا قوة الدولة التركية، وما تتمتع به حكومة العدالة والتنمية من خبرة ضخمة في مواجهة الكوارث كالزلازل والسيول وغيرها.

ومنذ الساعات الأولى للكارثة كان تعامل الحكومة التركية عند مستوى الحدث، بداية من رئيس الدولة والوزراء، والمؤسسات المعنية، وكان التنسيق على أعلى المستويات، علمًا أن الكارثة غير مسبوقة وتفوق قدرة أي دولة منفردة.

بخبرة مكتسبة على مدار أكثر من عقدين، وبنى تحتية، وقدرات، ومؤسسات أنشئت خلال مدة الحكم، وعلى رأسها إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، شرع الرئيس أردوغان وحكومته في مواجهة الكارثة، التي أراد البعض استغلالها سياسيًا بطريقة غير أخلاقية.

فمنذ اللحظات الأولى كانت المعلومات الصحيحة والإحصائيات، والحقائق تتدفق من خلال الرئيس أردوغان والوزراء والمسؤولين، عبر وسائل الإعلام، وكان ذلك بمثابة كابح للإشاعات، والمعلومات الكاذبة التي روجها البعض، ولهؤلاء الذين يريدون الرقص على جثث الضحايا، واستغلال ذلك لمصالح سياسية، وقد أشار وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إلى محاولات نشر الشائعات في جميع مؤتمراته الصحفية اليومية منذ وقوع الكارثة.

يمكن القول إن الحكومة التركية استطاعت السيطرة على الرأي العام عبر خطوات عملية سريعة لمس الجميع أثرها على أرض الواقع، حيث وُظفت قدرات الدولة لدعم المنكوبين، وبذلك فوتت الفرصة على أي محاولة للشتات الذهني ونشر الشائعات بين المواطنين.

المعارضة التركية وسقطة الاستغلال السياسي

رغم أن الحكومات لا تُسأل عن أسباب وقوع الكوارث، ومنها الزلازل، ولكنها تخضع للمساءلة عن طرق التعامل معها، وتخفيف آثارها.

وقد كان لافتًا مسارعة المعارضة التركية تحميل الحكومة المسؤولية منذ الساعات الأولى لكارثة الزلزال، في محاولة واضحة للتوظيف السياسي، مثلت سقطة كبرى في ظل توقيت وظرف يستوجبان تكاتف الجميع شعبًا وحكومة ومعارضة، وبدلًا من أن تمد المعارضة يد العون للمساهمة في تخفيف كارثة كبرى لا تقف تداعياتها عند حدود الداخل التركي، إذ بها تسهم في عرقلة جهود مواجهة تداعياتها، تارة عبر اتهام الرئيس أردوغان والحكومة بالتراخي، وتارة عبر نشر شائعات ومعلومات غير صحيحة، وكان الأحرى بالمعارضة، في ظل العجز عن المساهمة، أن يقولوا خيرًا أو يصمتوا.

ختامًا

على وقع كارثة زلزال هو الأكبر في العصر الحالي تعيش الدولة التركية حالة استنفار كامل، لمواجهة تداعيات كارثة كبرى، وخوض المعركة الحقيقة القادمة، وهي معركة إعادة البناء والإعمار، التي تعد المحك الحقيقي لمن يريد مساعدة الدولة التركية، ومناطق الشمال السوري، والتي تستوجب حراكًا دوليًا فاعلًا يتناسب مع حجم الكارثة وينحي جانبًا أي حسابات أو أجندات، استجابة لنداء الإنسانية، ورفعًا للمعاناة عن 26 مليون متضرر جراء الزلزال.

المصدر : الجزيرة مباشر