في ذكرى رحيله.. الطيب صالح ليس مجرد جائزة!

الطيب صالح

 

رحم الله الأديب والروائي العالمي الطيب صالح، الذي تحل ذكراه هذه الأيام، فقد جعل للسودان قيمة في محافل الثقافة والأدب، عاش بعيدًا عن وطنه، ومات بحسرة العبقرية، وما بين العام 1929 تاريخ ميلاده، حتى وافته المنية في العام 2009، لم يجد التكريم الذي يستحقه بعد.

محاولة اكتشاف الذهب

ومع أن الطيب صالح قاتل بضراوة ليغرس حروفه في تربة متعددة المناخات، وأنفق أنضر سنوات عمره مهاجرًا، من خلال الدراسة، وعمله في إذاعة (بي بي سي) ومنظمة اليونسكو، لكنه لم يتخلَّ عن هويته قط، وظل ينظر خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء داره، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها، مخلوق له أصل وجذور، له هدف، أبطاله عصيون على التدجين الاستعماري، كر إليهم غازيًا في عقر دارهم، قطرة من السم الذي حقنوا به شرايين التاريخ. كما أن الطيب صالح في مشروعه الأدبي، ظل يحكي عن أشياء عميقة ببساطة وتلقائية، وهذا سر تميزه، بمقدورك أن تقرأه في أي عمر، وتعيد قراءته في كل الأحوال، وفي كل مرة تجده يلمع كالذهب، لا ينطفئ بريقه، وتشعر به في أعماقك، وأحيانًا يحلق بك بعيدًا في فضاءات ساحرة، شخصياته تعيش بين الناس، تضحك وتبكي وتحلم معهم، وكلماته مثل عرائس الشمع، تتوهج في الظلام والأنواء.

جائزة أدبية ولكن!

خلال الأيام الماضية، شهدت الحفل الذي أقامته شركة زين لتوزيع جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، في دورتها الثالثة عشرة، وبدا الطقس مأتميًّا بعد رحيل أحد أبرز أعضاء المؤسسين للجائزة، وهو البروفيسور عبد الله حمدنا الله، طيّب الله ثراه. كانت القاعة مُزينة بالصور والأعلام والأضواء الكريستالية، وحضر الأصدقاء والمهتمون والإعلاميون والقراء المحبون وبعض الكُتّاب، لكنني لم أجد من بين الحضور أديبًا عالميًّا يليق بالمناسبة، أو على الأقل ضيف شرف يجتذب الأضواء، أو توصية بأن تدخل روايات الطيب صالح ضمن المناهج التعليمية، أو تحويل إحدى رواياته إلى عمل سينمائي، كما فعلت الكويت مع فيلم (عرس الزين) قبل سنوات طويلة، إذ إن خوض تجربة بهذا المعنى، سيكون أعظم وأمضى أثرًا، وستتوهج في فضاءات الفن السابع، كما تحولت بعض قصص وروايات ميلان كونديرا وماركيز ونجيب محفوظ إلى تحف سينمائية.

في كل عام تفقد جائزة الطيب صالح العالمية، زخمها الأدبي والعالمي، وتصبح مجرد طقس سنوي، يتنقل بخفة لا متناهية من فتح باب المشاركة، إلى إعلان الفائزين وتسليم الجوائز، في مواقيت تكاد تقتلها الرتابة، كما لو أن شركة الاتصالات التي رعت الجائزة، قد تورطت، وأصبح لزامًا عليها أن تمضي فيها إلى أن تتخلص منها في يوم من الأيام، عندما تتراجع القيمة الإعلانية لهذه الجائزة.

هذه بعض الملاحظات الجديرة بالالتقاط دون أن نظلم أعضاء اللجنة من شخصيات لها مكانتها الرفيعة في المجتمع، ولكن بعض الأفكار الخلاقة مهمة ومطلوبة في مثل هذه الجوائز، لتكون عالمية بالفعل، وأن تكون لديهم رؤية كرؤية الطائر، ينظر من فوق، حتى لو تغيّر شكل الاحتفال ومكانه، ليكون بعيدًا عن أجواء القاعات الباردة، أن يقام مثلًا في كرمكول، المدينة الشمالية التي وُلد فيها الطيب صالح وعاش وفيًّا لها، وأرسل بطله مصطفى سعيد ليموت هنالك وسط أهله، ينعم بدفء العشيرة، بعيدًا عن تلك البلاد التي تموت من البرد حيتانها، ولذلك كانت روايتا (عرس الزين) و(مريود) أقرب إليه من بقية ما كتب وأبدع.

عبقري الرواية العربية

من سخريات القدر أن الطيب صالح لم يخطط ليكون كاتبًا، ولا حتى إذاعيًّا، فجأة وجد نفسه يبحث عن ذاته، فإذا به، بعد تجارب خاطفة، يكتشف الكنز القابع في أعماق روحه، صاحب صوت إذاعي جميل، وبصيرة متقدة، وخيال خصب يرتاد الثريا، وقبل كل ذلك، صاحب قلب كبير يضخ المحبة، كما حاول أن يصور نفسه على لسان الطاهر ود الرواسي في رواية مريود “الحياة دي محيميد ما فيها غير حاجتين اثنتين: الصداقة والمحبة، وأنا المولى عز وجل أكرمني، وأنعم عليّ بدل النعمة نعمتين: صداقة محجوب وحب فاطمة بنت جبر الدار”. وبعد ذلك تجلت موهبة الطيب صالح، لدرجة أن الناقد المصري رجاء النقاش، عندما قرأ لأول مرة رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) سُحر وتيقن، بلا أدنى مبالغة، أنه أمام عبقرية جديدة في ميدان الرواية العربية، تُولَد كما يُولَد الفجر الجديد المشرق، أو كالشمس الأفريقية الصريحة الناصعة، على حد وصفه. ولعل رجاء النقاش هو تقريبًا أول من نبّه العرب إلى عبقرية الطيب صالح، حين عثر عليه بالصدفة. وبعد ذلك، أصبح الطيب صالح ضمن صفوة الكتّاب العالميين، وتُرجمت روايته إلى أكثر من عشرين لغة، واختيرت (موسم الهجرة إلى الشمال) واحدة من أفضل 100 رواية في القرن العشرين.

مهارب المُبدعين

ربما لن يصدّق أحد أن الطيب صالح مُقلّ في الكتابة، نحو خمسة أعمال فقط، والسبب أنه لم يجد الوقت الكافي، وكان يعمل طوال الوقت ليعيش مستورًا، في غربة لا ترحم، وماكينة رأسمالية تصنع الآلام وتُزهق الأحلام. ولا يمكن وصفه بأنه عاش كاتبًا متفرغًا، مثل ماركيز، كما لم تصرف عليه الحكومات الوطنية في بلاده مليمًا، بل كانت تزدريه، وأحيانًا حاربت أعماله وهاجمتها، فهرب من القمع وشظف العيش، ليجد في الأرض مُراغمًا كثيرًا وسَعة، ودخل ضمن من وصفهم الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب بعصبة الهاربين من ذكائهم، فئة خلقت لها جيوبًا خلفية وانغمست في الملذات كنوع من الهروب أو الاحتماء بالسرداب من مواجهة غوائل السطح، وفقًا للكاتب النور حمد، وفئة أخرى أناخت بعيدًا وأخذت الغربة منجاة لها، أمثال الطيب صالح.

ولعل أقرب (بورتريه) لشخصية الطيب صالح ما رسمه وزير الخارجية المغربي السابق محمد بن عيسى، حين قال “الطيب صالح لا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم، لا ينافق ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه. كل شيء لدى الطيب ملفوف بالحشمة والتقشف ونكران الذات، وليٌّ صالح دون عمامة”. ومن الوفاء أن يجد الطيب صالح المكانة التي يستحقها، فهو جدير بجائزة نوبل للأدب، والجائزة التي تأخذ اسمه، لا ينبغي أن يخمد بريقها، وأن تصبح -على الأقل- مثل كأس العالم، كل مرة لها لون رائع ومذاق مُتفرّد.

المصدر : الجزيرة مباشر