الخارج والعائد من سجون الوطن ومنافيه

يحيى حسين عبد الهادي

 

خرج المستشار هشام جنينة بعد خمس سنوات بالتمام والكمال -زادت يوما بسبب ما يُسمى إجراءات الخروج- قضاها في سجون الوطن المغرم بحبس وسجن محبيه.. خمس سنوات ليلها كنهارها طويل لا نهاية له.. خرج الرجل دون منة ولا فضل من أحد.. هللت لجنة الصمت (العفو) الرئاسي مبشرة بخروجه، وكأن هذا الخروج هو نتيجة لجهدها في الإفراج عن المعتقلين السياسيين! هؤلاء الذين لا يمكن لأي مؤسسة في الدولة أو منظمة حقوقية مصرية أو دولية أن تخبرنا كم يبلغ عددهم.

خرج جنينة الذي دخل إلى السجن بتهمة الشفافية، فلأن الرجل يؤمن بحق الشعب في أن يعرف ماذا يفعل، وأن يُحاسَب المخطئين والفاسدين؟ أخبره بما ينبغي أن يعرفه، وقدم كشفا بأعمال جهازه الذي يرأسه، فإذا كان الشعب يدفع راتبه الذي يتقاضاه شهريا فحقه المعرفة والمحاسبة، ليقول له في النهاية لقد حملت الأمانة وأديتها بكفاءة، ولم تخن ولم تتوان.

هكذا ظن الجليل أحد قضاة مصر الكبار ونجم حركة تيار استقلال القضاء مع الكبار: محمود مكي، محمود الخضيري (قضى ست سنوات من عمره في السجن بعد 30 يونيو)، هشام البسطاويسي (هاجر من مصر وقضى سنوات في الخليج ومات منذ سنوات)، أحمد مكي، المستشار زكريا عبد العزيز، ويحيى دكروري (حرم من تولي رئاسة مجلس الدولة) هؤلاء الذين كانوا رجال القضاء: قضاء العدل.

ظن جنينة ما يعتقده حقا وعدلا، ولكن يبدو أن هناك من كان يرى أنه ليس من حق الشعب المعرفة ولا المحاسبة، فهم محكمون فقط، ليس لهم سوى الجلد بالضرائب أو الأسعار، ثم الموت قهرا على وطن صار زنزانة كبيرة للمحبين.

قبل دخول المستشار هشام جنينة إلى المحاكمة بتهمة نشر وإذاعة أخبار كاذبة ـ هكذا كانت تهمته ـ كوّن مع الفريق سامي عنان، والدكتور حازم حسني (دخل السجن أيضا وخرج) فريقا رئاسيا لانتخابات 2018، تعرض بعدها جنينة لهجوم من بلطجية وأصيب، ثم تحدث للصحفي محمد أكسجين – سُجن بعد الحوار ولم يخرج حتى الآن- عن ظروف الاعتداء عليه، وعن تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات كرئيس له عن الاقتصاد الموازي للمؤسسة العسكرية، وبعدها حُوكم جنينة وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، نفذها بالتمام، فلا منة ولا فضل لأحد.

مثل الكثيرين، دفع هشام جنينة من منصبه وراحته وماله، وهدوء عائلته وسكينتها ضريبة الوطن كاملة بلا نقصان، ولذلك لم يكن غريبا هذا الترحاب بخروجه والعودة لمنزله. نعم لم نكن نعاني ما عاناه الرجل في عمره ومكانته داخل السجن، لكننا لم نغفل ولو يوما عن تذكره، فوجدان الذاكرة الشعبية قد يخفت تحت ضغط القهر والحاجة لفترة، لكنه يظل دائما حافظة لمن يصون للشعب حقوقه، ويضحي لأجل إعلاء كلمة الحق.

قد يظن بعض الناس أن مثل هؤلاء منسيون، لكن الحقيقية أنهم دائما في وجدان أمتهم، ولا تسامح الذاكرة الشعبية من يتخلى عنها، تظل صورته عالقة في الذاكرة كمثال لمن باعوا أنفسهم، وباعوا الوطن، فاستحقوا النسيان، والاحتقار مدى الدهر.

هل يمكن لنا أن ننسى لجنينة ورفاقه وقفتهم أمام دار القضاء العالي في عام 2005، حينما قادوا معركة استقلال القضاء؟ هل يمكن أن ننسى وقفتهم في انتخابات مجلس الشعب (مجلس النواب الآن) في نفس العام وفي انتخابات 2010؟ هل يمكن أن ننسى دخولهم إلى ميدان التحرير في ثورة يناير؟ لا تنسى الأمم الحية أبناءها المخلصين.

العائد من المنفى

قبل خروج هشام جنينة من السجن بعد قضاء مدته، كانت عودة الدكتور ممدوح حمزة من منفاه الإجباري (الاختياري) لمدة ثلاث سنوات قضاها متنقلا بين لندن ولبنان وتركيا، وكان اسمه على قوائم الترقب والوصول لمحاكمته بنفس ذات التهمة: نشر وإذاعة أخبار كاذبة، تم رفع اسمه من على قوائم الترقب والانتظار وعاد حمزة إلى وطنه منذ أيام.

حق حمزة الذي لا يمكن أن يحرمه أحد منه العودة إلى الوطن كما حقنا جميعا، لا يملك كائنا من كان أن يمنعنا هذا الحق. حقنا جميعا أن نجدد جوازات السفر وبطاقة الرقم القومي، حق مطلق وليس انتقائيا. إذن عاد الاستشاري الهندسي النابه إلى وطنه.

ممدوح حمزة أحد مهندسي مصر الدوليين، صاحب مشروعات هندسية شهيرة في مصر والعالم، أحد أهم مهندسينا، ولا ننسي له معركته في عصر مبارك ومع وزير إسكانه محمد إبراهيم سليمان، كما لا يمكن لشباب ثورة يناير أن ينسوا ما قدمه ممدوح حمزة للشباب في الميادين، استمر هذا طوال عامين ونصف العام من عمر الثورة. كان حمزة راعيا للميدان.

الغريب أنني لم ألتق به إلا منذ عام في إسطنبول، لم ألتقيه في الميدان ولم أذهب لفيلته التي كان يعقد فيها اجتماعات لشباب من ثوار يناير، ولكنه جاء إسطنبول وكان يود الاستقرار فيها، والتقينا لأول مرة.

كان حمزة لديه حلم أن يوحد المعارضة المصرية في الخارج، حاول في إسطنبول مرة، ومع مجموعة تكنوقراط مصر في أمريكا أيضا، يبدو أنه لم يوفق، وعاد إلى لبنان ومنها إلى مصر، ثارت كالعادة الثائرة ما بين مرحب ومتوجس للعودة، البعض يخشى فقدان صوت مثله كمعارض شرش حسب وصفهم ـالشعب ينتظر أي صوت يعبر عنه ـ والبعض الآخر يرى انفراجة بعودته! يأملون في عودة كل المصريين بالخارج إلا…!!!!! وفي إلا تلك الكثير والكثير.

المخلصون من أبناء الوطن

استقبل ممدوح حمزة في مطار القاهرة بواسطة عميد في وزارة الداخلية المصرية، رحب به كواحد من المخلصين المصريين، وأيضا رحب بكل المخلصين المصريين في الخارج!! علامات تعجب واستفهام؟؟ من يحدد المخلصين من أبناء مصر؟ أين وحدة القياس لنعرف المخلص من غيره؟ ما الجهة التي تختص بهذه المقومات والمعايير حتى يعود منا المخلص، ويمتنع غيره!!

قال لي صديقي الفلسطيني بالأمس القريب وهو يحدثنا عن نكبة الخلاف بين الفصائل ” إنهم يحددون الوطني أو الخائن بالقرب والبعد من السلطة، سلطة أي فصيل” نعم على مقياس الحاكم يكون الإخلاص من عدمه، وتصورت أنه مقياس الحذاء إذا كان 43 فأنت مخلص وطني، أما إذا كان 45 فقد خرجت من رحمة السلطة!

هذا الأسبوع كتب المهندس يحيى حسين عبد الهادي العسكري السابق، ورئيس مركز إعداد القادة مقالا على فيسبوك يطالب بخروج كل المحبوسين السياسيين في مصر بمن فيهم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وطالب يحيى المتحدث الرسمي السابق للحركة المدنية بالإفراج عن كل من حكم عليه من محاكم أمن الدولة، وإعادة المحاكمة أمام قضاة طبيعيين، في مبادرة كبيرة يتحمل مسؤوليتها الرجل النبيل الخارج مؤخرا من السجن ـ ثلاث سنوات أمضاها حسين بنفس ذات التهمةـ.

في نفس السعي كتب الدكتور محمد سيف الدولة عن ما سماه الطائفية السياسية في مصر، انتقد سيف الدولة انتقائية الحركة المدنية في مطالبات الإفراج عن سجناء رأي بعينهم دون آخرين، واعتبر أن ما يحدث نوعا جديدا من الطائفية.

عدّد سيف الدولة أشكالا تاريخية لمثل هذه الطائفية بل ذكّر اليسار المصري بما عاناه في سبعينيات القرن الماضي أبان حكم الرئيس الأسبق أنور السادات. لقد فند كلاهما: يحيى حسين ومحمد سيف الدولة كل أوهام الموهومين، والسؤال الآن: هل تحتمل مصر عودة (المخلصين) المصريين من الخارج والإفراج عن السجناء السياسيين بلا طائفية سياسية؟ نعم تحتمل مصر كل أبنائها فهذا هو الطبيعي فالوطن لنا جميعا والحرية لنا أيضا بلا طائفية، ولكن هناك من لا يحتمل خوفا، ومن لا يحتمل كراهية، ومن لا يحتمل أن يكون هناك صوتا آخر لا يتحكم فيه.

المصدر : الجزيرة مباشر