السودان.. القاعدة الروسية وحدود مناورة العسكر

خلال زيارة قام بها الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى روسيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، طالب الروس بإقامة قاعدة لهم في الأراضي السودانية على البحر الأحمر لحماية بلاده من التهديدات الأمريكية التي أدت إلى تقسيم السودان إلى خمس دويلات، وفق تصريحاته آنذاك، هي الشرق حيث البجا، والغرب حيث دارفور، والجنوب، والوسط حيث الخرطوم، ويخصَّص الشمال لإقامة دولة كوش الجنوبية التي لها امتدادات جنوبي مصر.
وقام وزير الخارجية السوداني حينها، إبراهيم الغندور، بتبرير هذا الطلب بأنه يأتي بسبب مواقف روسيا والصين الداعمة لبلاده في مجلس الأمن، والتي أجهضت مشروع قرار أمريكي استهدف حظر تصدير بلاده للذهب رغم أنه سلعة التصدير الأولى بعد النفط الذي ذهب إلى الجنوب بعد انفصاله.
جذور الفكرة
فكرة القاعدة العسكرية الروسية في السودان، بدأ طرحها عام 2012، وخاصة بعد انفصال جنوب السودان عن شماله في 2011، وذلك خلال زيارة مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع، حيث تم طرحها وإجراء مناقشات موسعة حول كيفية تطوير العلاقات العسكرية وإعادة تأهيل القوات المسلحة السودانية ودعمها بنظم تسليحية حديثة ودعم سلاح الطيران والدفاع الجوي، حيث كانت موسكو المورد الأول للسلاح للحكومة السودانية خلال حرب الجنوب، كما قامت بتدريب قادة وجنود الجيش السوداني وفتحت كلياتها العسكرية لالتحاقهم بها، ومنحت السودان رخصًا لتصنيع السلاح الروسي تحت مسميات سودانية.
وجاءت دعوة البشير بعد شهر على رفع أمريكا للعقوبات عن الخرطوم، وكذلك بعد أسبوع من زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان للخرطوم التي عبّر فيها عن تفاؤله بقرب رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، رغم أنه امتنع عن مقابلة البشير واكتفى بالاجتماع مع نائبه الأول بكري حسن صالح.
وارتبطت دعوة البشير، حينها، بالعديد من الاعتبارات من بينها، وجود هواجس لدى البشير من إمكانية قيام ترمب بإعادة فرض هذه العقوبات، خاصة أنها مستمرة بالنسبة لدارفور وكذلك بالنسبة لحظر استيراد السودان للسلاح، كما أراد البشير التلويح لواشنطن بأن إبقاء بلاده على قوائم الإرهاب سيجعلها تتحرك نحو موسكو، هذا بجانب مكافأة روسيا على مواقفها المؤيدة له في المحافل الدولية، بداية من المحكمة الجنائية الدولية ورفض موسكو القرار الصادر بحق البشير عام 2008، وانسحابها أواخر عام 2016 من التصديق عليه، وكذلك موقف روسيا من أزمة دارفور وعملية تدويلها، ودعمها لخفض عدد قوات يوناميد الأممية ـ الأفريقية المشتركة العاملة في السودان، حيث دفعت باتجاه صدور قرار من مجلس الأمن بالإجماع في يوليو/تموز 2017، بشأن الخفض التدريجي لهذه القوات بنسبة 40%، تمهيدا لإحلال القوات السودانية محلها.
بنود الاتفاقية وصلاحيات الروس
الرغبة الروسية الملحة في إقامة قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر في السودان، لا تنفصل عن سياق مخطط تغلغلها في العمق الأفريقي، في مواجهة طموح الأمريكيين بتعزيز نفوذهم داخل القارة الأفريقية بوصفها سوقًا للسلاح ومصدرًا مستقبليًّا ضخمًا للموارد والثروات الطبيعية، لذلك شرعت روسيا بالفعل في بناء القاعدة اعتمادًا على تعهدات والتزام الرئيس البشير، والتأكيد على أن الاتفاق يمنحها مساحة في قاعدة “فلامنغو” البحرية بالبحر الأحمر، ووصلت إلى المنطقة بالفعل قوات وخبراء من روسيا (نحو 300 فرد) بدؤوا بخطوات التنفيذ عبر نصب المعدات الخاصة بهوائيات الاتصالات.
وأعلنت روسيا أنها قدّمت إلى السودان من الخدمات ما يؤهلها للحصول على قاعدة لوجستية لصيانة قطعها البحرية الموجودة في البحر الأحمر، كما تعتقد أنها أوفت بالتزاماتها وقدّمت المقابل الذي اتُّفق عليه، وهو غير معروف حتى الآن، وهل كان عبارة عن معدات عسكرية أم مقابل مادي أم معنوي بمساندة السودان في المحافل الدولية؟
وترى روسيا أنه على السودان الآن الوفاء بكل التزاماته، والسماح بإقامة القاعدة البحرية والمركز اللوجستي، وتنفيذ بنود الاتفاقية التي تنص على أن مدتها 25 عامًا قابلة للتجديد 10 أعوام إضافية، مع عدم منح أي قوة أو دولة أخرى مركزًا لوجستيًّا مماثلًا على ساحل البحر الأحمر، فضلًا عن شرط ألا تكون للسودان أي ولاية قانونية داخل منطقة القاعدة، فضلًا عن تقديم القاعدة الخدمات لسفن ذات طبيعة نووية.
وتضمنت الشروط كذلك إقامة إنشاءات على الأرض المحاذية لساحل القاعدة بنحو 50 كيلومترًا إلى الداخل السوداني، تُنصب فيها هوائيات وأجهزة تنصت، وتُستخدم في عمليات الإصلاح والتموين وإعادة الإمداد لأفراد طواقم السفن الروسية، ويحق للجانب السوداني استخدام منطقة الإرساء، بالاتفاق مع الجهة المختصة من الجانب الروسي، وتحدد الاتفاقية إمكانية بقاء 4 سفن حربية حدًّا أقصى في القاعدة البحرية، ويحق لروسيا أن تنقل عبر مرافئ السودان ومطاراته أسلحة وذخائر ومعدات ضرورية لتشغيل تلك القاعدة. وقد رُفعت الاتفاقية إلى مجلس الدوما الذي أقرّها بدوره، ورفعها إلى الرئيس بوتين الذي صدّق عليها بصفة نهائية في 16 فبراير/شباط 2020.
تجميد القرار بين ضغوط الغرب ومخاوف العسكر
أصدرت الحكومة السودانية قرارًا ظاهريًّا بإخلاء القاعدة، حيث صرّح رئيس هيئة الأركان السوداني الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين أن الاتفاقية تم تجميدها في أبريل/نيسان 2021، حتى يتم عرضها على المجلس التشريعي بعد تكوينه. ورغم هذه التصريحات العلنية، فإن الاتصالات بين روسيا والسودان لم تتوقف، وشهدت العديد من الزيارات التي قام بها بعض المسؤولين السودانيين إلى روسيا، منهم وزيرة الخارجية السابقة مريم الصادق المهدي، ووزير الدفاع ياسين إبراهيم ياسين للمشاركة في مؤتمر الأمن الدولي، أعقبتها زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بين 23 فبراير و3 مارس/آذار 2022، في بدايات الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتم خلالها تقديم تعهدات إلى الجانب الروسي بخصوص السير قدمًا في تنفيذ بنود الاتفاقية.
عسكر السودان الحريصون كل الحرص على تعزيز علاقاتهم مع روسيا بوتين، وتتناول الكثير من التقارير أبعاد هذه العلاقة، وملفاتها ومن يقف خلف السعي نحو ترسيخها، أعلنوا عن قرار التجميد تحت دعوى ضرورة التصديق التشريعي على الاتفاقية مع غياب المجلس التشريعي نفسه، في ظل الضغوط الأمريكية والغربية التي تواجهها الخرطوم بشأن الاتفاقية، لكن حكام السودان الجدد يعتقدون أنهم يمكنهم المناورة بالورقة الروسية في مواجهة الغرب، على أمل الحصول على دعم الغرب لهم حتي يتجاوزوا أزماتهم الاقتصادية والسياسية، والتعامل مع الاتفاقية على أنها ورقة تكتيكية أكثر منها استراتيجية بعيدة المدى. إلا أنه مع تداعيات الحرب الأوكرانية، لم يعد الغرب وتحديدًا الولايات المتحدة تقبل بمثل هذه الممارسات من أي طرف من الأطراف الذين تتعامل معهم على أنهم حلقات في دائرة هيمنتها في الشرق الأوسط، وأنه غير مسموح لأحد من هذه الأطراف المساومة أو الابتزاز باستخدام الورقة الروسية.
حدود مناورة عسكر السودان
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أثناء زيارته للسودان (6 فبراير 2023) قال إن روسيا والسودان متفقان على “التوجه نحو عالم ديمقراطي متعدد الأقطاب”، وإن موسكو تنتظر موافقة الخرطوم بشأن قاعدة فلامنغو على البحر الأحمر، وضرورة التنسيق المشترك في المحافل الدولية لإصلاح الأمم المتحدة.
وكأن لافروف لا يعترف بأن النظامين السياسيين في الدولتين لا علاقة لهما من قريب أو من بعيد بالديمقراطية، وأن إمكاناتهما وقدراتهما لا تسمحان لهما بمواجهة التحديات والأزمات الداخلية التي يعانيان منها، فكيف لهما أن يعملا على بناء عالم متعدد الأقطاب، وإصلاح الأمم المتحدة؟
وإذا كان الكثير من هذه الشعارات والتصريحات، يُطلق في الهواء فإنها واقعيًّا تنتهي في الهواء، في ظل بيئة دولية تشهد الكثير من التحولات والمتغيرات، وتفرض على معظم النظم السياسية العربية والأفريقية، وفي مقدمتها النظام السوداني، الانحناء طوعيًّا قبل أن تعصف بهم تداعيات هذه التحولات.