حتى موتنا مختلف!

 

ما هذا القدر الذي يلاحق السوري الهائم في بلاده كما في غربته؟! السوري الفائض بعلمه وفنّه، المتدمشق بحبه للحياة، كيف يا إلهي يدفع ضريبة التاريخ والجغرافيا وحتى الجيولوجيا؟!

بعد أن أُفرغت الإنسانية من محتواها، في عالم سد الأبواب وترك البلاد تنزف أبناءها على رصيف الكون، يأتي الزلزال ليُكمل قصتنا.

أهلنا في الشمال السوري يستنجدون ولا مجيب. المعابر مغلقة والمساعدات تهبط في مطار دمشق وتذهب إلى النظام وشبيحته الذين يبيعون المساعدات، حسب ما تظهره الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي. والمنطقة المنكوبة التي تحتاج إلى مساعدات أكثر من غيرها تقع في مناطق سيطرة المعارضة وليس النظام، فكيف لمن يلاحقهم بالبراميل المتفجرة أن يرسل إليهم الإعانات؟! إنه يضحك تشفيا منهم وكأنه في حفل وليس في مأساة، لقد شُغلت كل مواقع التواصل ببسمته وبحساب ابنته التي تطلب عدم دعم الشمال الغربي لأنهم “إرهابيون” حسب وصفها. أما هم فقد أدركوا ذلك مبكرا، ورفعوا شعار (ما لنا غيرك يا الله)، حيث لا أحد يهتم لا من العالم الذي يُسمى متحضرا ولا من العالم الذي يُسمى (ثالثا)، بل هناك من يتذاكى بأن المساعدات تصل إلى الجميع، وهم يستثمرون الكارثة لخلق فرص سياسية ثمينة.

لماذا وصلت البشرية إلى هذا الدرك؟

يتحدث علماء التاريخ عن زوال حضارات وبروز أخرى، فعندما تصل الحضارة إلى التفكك والتفتت عبر انحلال موازينها القيمية والأخلاقية فإنها تصل إلى حد الانهيار، ونحن اليوم نعيش هذا المشهد، مشهد آخر الحضارات الغربية المأزومة التي تنحدر بالإنسان الى حد تغيير فطرته وجيناته وكل منظومة الاخلاق العليا التي تميزه عن الحيوان، إنها لا تختلف أبدا عن الزلزال.

 

لماذا الكل يتقاذف الاتهامات؟

هنا وهناك، ارتفعت أصوات تتحدث عن مشروع “هارب” (HARP) الأمريكي أو مشروع الشفق النشط عالي التردد (ألاسكا 1997) لصناعة كوارث مناخية وطبيعية، وهو مشروع عسكري سرّي، لذلك من الصعب أن نجد دلائل علمية مؤكدة ومثبتة على ذلك، لأن براعة الأجهزة الاستخباراتية العالمية لا تتيح أي مجال لذلك.

ومنهم من تحدّث أيضا عن قنبلة نووية صغيرة في القاعدة الأمريكية النووية في تركيا في منطقة (إنترلخت) التركية، أو في غواصة روسية في عمق البحر نتيجة تجربة نووية خاطئة للمشروع الروسي التركي في مفاعل (أوكويو). الكل يتقاذف الاتهامات، والصحافة التركية عبر (حرييت) تتساءل: كيف يمكن لشق أرضي بعمق 10 كيلومترات أن يُحدث كل هذا التأثير التدميري علميا؟ فالشقوق تحت 12 كيلومترا علميا لا تُحدث أي تأثير زلزالي.

وسيبقى الملف مفتوحا، كما سبقه ملف كوفيد-19 وملفات الاغتيالات الكبرى، فكل شيء يحدث بتنسيق وترتيب واحتراف شديد، ونحن تحت الردم منذ جرحين وحرب طاحنة على أرضنا.

حتى الموت عنصري!

هل السوريون هم من قُتلوا تحت الردم وغرقوا في البحار، أم إنه الضمير الذي تاجر بهم سنوات طويلة؟! حتى الموت عنصري يميز بين الجثث، نحن موتنا مختلف، ولا يوجد بكل الكرة الأرضية    موت يتحدث بكل اللغات الحيّة سوى موتنا السوري، وعبر التاريخ منذ أن وُجد “أتيلا” وهو أقدم وأول طاغية عرفته البشرية، لم يشهد الكون أن تحوّل كل طغاته دفعة واحدة ضد الإنسان والإنسانية كما يحصل اليوم.

أليس عجيبا هذا النزيف الذي لا يتوقف ولا يوجد قرار في الكون لإيقافه؟! حتى شعوب الأرض “طهقت” من صورنا على الشاشات، هل هو العقل السوري الذي يحاربونه للقضاء عليه كما قضوا من قبله على علماء العراق، لأنه النواة الوحيدة التي بقيت صالحة من الإرث التاريخي والحضاري عبر الزمن، والنواة الوحيدة الناجية من كل ما تم تشويهه وتفتيته وتعطيله عن العمل؟! ألأنه النواة المخيفة الصالحة للزراعة من جديد والصالحة للاستنساخ وللخلايا الجذعية الوطنية، لذلك مطلوب إتلافها بالسرعة إن أمكن أو ببطء إن تعذّر؟!

شكرا أيها العالم، كل العالم، على تصريحاتكم وجلسات أمنكم ومؤتمراتكم فلقد أنفقتم الكثير من أجلنا، ولولاها ما ازداد عدد الشهداء في شوارعنا، ولما علت صرخات الأطفال في بيوتنا المحروقة تحت البراميل أو تحت الزلازل، ولولاها لما تشرّد أهلونا في أصقاع الأرض، ولما استفاد تجار الحروب وغيرهم حتى من التبرعات التي جُنيت باسمنا.

شكرا على إنسانيتكم، لا تلزمنا بعد اليوم، شكرا على احترامكم لجثث أطفالنا على الشطآن وتحت الردم، وتغطيتها بما يكفي لتحقق نجومية غير مسبوقة. شكرا على احترامكم لحناجرنا التي هتفت للحرية والكرامة، شكرا على ذكائكم الفاضح بإعادة التأهيل الاقتصادي -بعدما فشلتم دبلوماسيا- لسفاح يضحك على الملأ والشعب تحت الردم، شكرا على احترام التاريخ الذي تطعنونه من الخلف لكنه لا يموت، التاريخ والدنا المحبّ، كم مرة تتآمرون عليه وهو جارف كالشعر، واقف من علٍ يتفرج على خيبتكم، كم مرة تُهيلون عليه التراب وهو طائر الفينيق، سنرتديه وحدنا بما تبقى منّا، يقينا البرد ويحملنا فوق المياه يحمينا من الغرق والطمس، سنحمله في الظلام فانوس زيت عتيق، إن تسألوا لماذا؟ لأننا مجروحون وقاضمون وواقفون وباسقون، وحده من يعرف قيمة الذهب عندما يعلن الجميع إفلاسهم، سيبقى تاريخنا صديقنا يحارب معنا حتى بالياسمين.

المصدر : الجزيرة مباشر