دبلوماسية الكوارث: العطاء لمن يستحق!!

الكارثة في اللغة العربية من الفعل (كرث) والكارث جمعه كوارث، وهو الأمر المسبب للحزن الشديد. وفي اللغة الإنجليزية، عرَّف قاموس أكسفورد الكارثة Disaster بأنها حدث يسبب دمارًا واسعًا ومعاناة عميقة، وهى سوء حظ عظيم. وكلمة “كارثة” حرفيًّا تعني النجم السيئ أو سوء الطالع.

واصطلاحًا؛ فقد تعددت تعريفاتها، من ذلك أنها “حدث مفاجئ غالبًا ما يكون بفعل الطبيعة يهدد المصالح القومية للبلاد ويخل بالتوازن الطبيعي للأمور وتشارك في مواجهته جميع أجهزة الدولة المختلفة”، أو هي “حادثة محددة زمنيًّا ومكانيًّا ينجم عنها تعرّض مجتمع بأكمله أو جزء من مجتمع لأخطار مادية شديدة وخسائر في أفراده تؤثر على البناء الاجتماعي بإرباك حياته وتوقف توفير المستلزمات الضرورية لاستمرارها”.

ووفقًا لتعريف المنظمة الدولية للحماية المدنية، فإن الكارثة هي “حادثة كبيرة ينجم عنها خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، وقد تكون طبيعية (Natural Disasters) مردّها فعل الطبيعة “كالسيول أو الزلازل أو العواصف إلخ”، وقد تكون فنية (Technical Disasters) مردّها فعل الإنسان، سواء كان إراديًّا أو غير إرادي، وتتطلب لمواجهتها معونة الوطن أو على المستوى الدولي إذا كانت قدرة مواجهتها تفوق القدرات الوطنية.

الكوارث بين العلم والتضليل

هذا عن التعريف، أما عن الطبيعة فنجد من واقع التجارب والخبرات التي مرت بها دول العالم، وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية، أنه عندما تقع الكارثة الطبيعية، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا غير حصر الأضرار ومحاولة تقليل الخسائر. وفي ما يخص استباق الكارثة، يمكن للعلماء أن يفعلوا أشياء كثيرة، لا سيما في ما يخص الزلازل والبراكين والأعاصير والسيول الجارفة، ولكن يتم ذلك بمعدلات تختلف باختلاف مستويات تطور البلدان والإمكانات المتاحة، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، ليست الكارثة الطبيعية كارثة، من وجهة نظر البعض، إلا بالنسبة لمحيطها، لكن التجارب والخبرات تقول إن الكوارث، أيًّا كان موقعها، تؤثر في الجميع، ذلك أننا نعيش فوق كوكب واحد، وتظلنا سماء واحدة، بل والغريب أنه في حالات كثيرة لا تقع الكارثة إلا عندما يقف البشر في طريق الظواهر الطبيعية، وتكون البنية التحتية أضعف من أن تحتوي أخطار الكارثة وتداعياتها.

ومن ناحية ثالثة، نجد أن المخاطر الطبيعية هي حدود التماس بين العلماء وعامة البشر الذين قد تتباين مخاوفهم بقوة في الحياة اليومية. ومن حدود التماس هذه تبدأ القضايا، فالعلم غريب ويبقى غريبًا بالنسبة إلى كثير من الناس، حتى عندما تعصف بهم الأعاصير وتضربهم السيول أو المجاعات. لكن في الوقت نفسه، ينبغي على الجميع أن يعرفوا كيف يتعايشون مع المخاطر الطبيعية، باعتبارها سمات ملازمة لكوكب الأرض، فعندما تتسع المدن وتزداد كثافة، يزيد عدد المعرّضين لخطر الكوارث، ومع تجاهل العلم والعلماء تنتشر الشائعات والأباطيل والتضليل، الذي يهيمن على العقول، سواء في تحليل الكوارث أو مواجهتها.

الكوارث بين الطبيعة والبشر

يتم التمييز بين كوارث بشرية ناشئة عن فعل بشري، مثل الغزو العسكري، عمليات الإرهاب، كخطف الطائرات والسفن واحتجاز الرهائن والتفجيرات، وتلويث البيئة، مثل تسرب الإشعاع أو المواد الكيميائية أو الصناعية، والإهمال الذي ينتج عنه انهيار السدود أو انقطاع الكهرباء والماء في المدن الكبرى، والحرائق الكبيرة عمدًا أو إهمالًا، وحوادث الطائرات والقطارات وغرق السفن الضخمة إلخ. والأخرى كوارث طبيعية، لا دخل للنشاط البشري بحدوثها، مثل: الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات وما شابه ذلك، والجفاف ونضوب الموارد المائية إلخ.

واستنادًا إلى المعيار نفسه، ميّز البعض بين ثلاث مجموعات، الأولى: الكوارث الطبيعية، التي تتحكم فيها الطبيعة وتنقسم إلى كوارث مناخية وجيولوجية (مثل الزلازل، الفيضانات، السيول، الأعاصير) وكوارث بيولوجية (مثل الأوبئة المرضية والآفات الزراعية “الجراد، أنفلونزا الطيور،..”) وكوارث كونية (مثل سقوط الشهب والنيازك والإشعاعات الكونية).

الثانية: كوارث بشرية، وتنقسم إلى كوارث إرادية ومخططة (مثل الحروب واستخدام أسلحة التدمير الشامل والحرائق المتعمدة والنفايات النووية) وكوارث غير إرادية (وهي من صنع الإنسان وإن لم يتعمد إحداثها ولكن يؤدي الإهمال البشرى دورًا أساسيًّا فيها مثل الحوادث، الانهيارات، وحوادث النقل بأنواعه).

أما الثالثة، فهي الكوارث المشتركة بين الإنسان والطبيعة، ومنها كوارث تبدأ بفعل الإنسان ثم تلعب الطبيعة دورًا أساسيًّا في زيادة حجمها وآثارها، مثل الحرائق التي تساعد الرياح على انتشارها أو كوارث تبدأ بفعل الطبيعة مثل الزلزال وتزداد الخسائر نتيجة تدافع الأفراد بدون وعى.

دبلوماسية الكوارث.. أين تكون البداية؟

في أوقات الكوارث يتناسى الأفراد ما بينهم من خصومات ومشاحنات، ويهرعون لمساعدة المتضررين، وكلما زاد حجم الكارثة وتعمقت آثارها زاد حجم النسيان وسرعته وقوته، وينطبق الأمر نفسه في الكثير من الحالات الكارثية بين الدول والجماعات والكيانات المختلفة، وهو ما ما برز أمام تداعيات الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا في السادس من فبراير/شباط 2023، مخلّفًا نحو 30 ألف قتيل، ونحو 100 ألف مصاب، وأكثر من 20 مليون متضرر في عشر ولايات تركية، وعدد من المحافظات الكبرى شمال غربي سوريا، في كارثة هي الكبرى في تاريخ المنطقة خلال القرن الأخير، حيث تتابعت مبادرات التضامن العالمي مع تركيا وسوريا، وإرسال فرق الإغاثة للمساعدة في عمليات الإنقاذ بالمناطق المنكوبة، بجانب الإعلان عن تقديم الدعم المادي والمعنوي للمتضررين.

هذا على الرغم من توتر العلاقات، على سبيل المثال، بين تركيا والعديد من الدول الغربية، التي تبنّى معظمها في أعقاب الكارثة خطابًا متعاطفًا مع تركيا، فكتب الرئيس الأمريكي جو بايدن “أشعر بحزن عميق بسبب الخسائر في الأرواح، والدمار الناجم عن الزلزال في تركيا وسوريا. وجَّهت فريقي لمواصلة مراقبة الوضع عن كثب بالتنسيق مع تركيا، وتقديم أي مساعدة مطلوبة”. وقال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك “أفكر في شعب تركيا وسوريا هذا الصباح، لا سيما المستجيبين الأوائل الذين يعملون ببسالة لإنقاذ المحاصَرين بسبب الزلزال”. كما كتب المستشار الألماني أولاف شولتس “نتقدم بخالص التعازي لأسر الضحايا، ونخشى على العالقين تحت الأنقاض”. وغرَّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلًا “تَرِد إلينا صور فظيعة من تركيا وسوريا بعد زلزال بقوة غير مسبوقة. نتعاطف مع العائلات التي خسرت أفرادها”.

وتسارعت الاستجابة الدولية لتقديم الدعم، وزاد عدد الدول التي شاركت في هذه الاستجابات على 60 دولة خلال أقل من أسبوع بعد وقوع الكارثة.

العطاء لمن يستحق

ومع وضوح الصورة في ولايات جنوبي تركيا، نظرًا لوجود نظام سياسي مستقر، ويمتلك السيطرة على كامل أراضيه، ويمتلك من الإمكانيات والقدرات ما يستطيع به التعاطي مع الكارثة وتداعياتها من ناحية، أو إدارة العلاقة بفاعلية وجدية مع الدول والمؤسسات والهيئات المانحة للمساعدات، كانت الصورة غامضة في مناطق شمال غربي سوريا، نظرًا لأن النظام الحاكم في دمشق لا يفرض سيطرته على هذه المناطق، بل إنه كان شريكًا في تدمير بنيتها التحتية واستهداف سكانها، وتهجير الملايين منهم، باستخدام آلياته العسكرية مدعومًا بحلفائه الإقليميين والدوليين منذ 2011 وحتى وقوع كارثة الزلازل، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، تفاوت وتضارب المواقف السياسية الإقليمية والدولية من هذا النظام، وهل تقوم بتقديم الدعم له رغم جرائمه أم تتوقف عن تقديم الدعم تجنبًا للتطبيع معه؟

ومع هذا التردد، ثار جدل أخلاقي وإنساني وسياسي، وقامت بعض الأنظمة العربية بتقديم الدعم المباشر لنظام بشار، رغم نشر العديد من التقارير التي تفيد تعامله باستخفاف مع الكارثة وتداعياتها، بل والتجارة بالمساعدات التي وصلت إليه عبر مؤسساته والمحسوبين عليه، في الوقت الذي عانت المناطق المتضررة من صعوبة وصول الإمدادات، التي وصلت متأخرة ومحدودة وغير كافية لمواجهة حجم الضرر الكبير بشريًّا وماديًّا ومعنويًّا.

الجدل عقيم والحلول متاحة

مع هذا الجدل العقيم الذي لا يواجه إلا المتضررون من الكارثة أضراره ومخاطره، تبرز مجموعة من الآليات والإجراءات الواضحة والمحددة، من بينها أن الدول التي ترغب في تقديم المساعدة للمتضررين دون تطبيع مع نظام سياسي معين يمكنها أن تعتمد بشكل مباشر على منظمات مجتمعها المدنية وهيئاتها الخيرية ومؤسساتها الإغاثية غير الحكومية في دعم المنكوبين، أو تعتمد على منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والهيئات الإغاثية الموثوقة في المناطق المنكوبة التي لا تخضع لسيطرة النظام، أو تعتمد على المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بالإغاثة الإنسانية، أو المنظمات والهيئات والمؤسسات الأممية ذات الصلة، لضمان وصول الدعم إلى من يستحق، وليس إلى من كان شريكًا في التنكيل بالملايين لنحو 12 عامًا مضت، وفعل بهم أكثر مما فعلته كارثة الزلزال.

الأهم من العطاء، أن يصل إلى من يستحق، والأعظم قيمة وأثرًا أن يصل في الوقت المناسب والمكان المناسب وإلا أصبح بلا قيمة، بعد أن يصبح الآلاف في عداد الموتى أو المفقودين.

المصدر : الجزيرة مباشر