الزلزال.. أسبوع الآلام والوجع في سوريا وتركيا

 

توقفت الأنفاس وغابت الأرواح في ملكوت آخر، والأرض ترتج تحت الأقدام ويغيب الوعي، ونحن نقف في ذهول أمام الكارثة التي ألمّت بنا جميعا وأصابت جنوبي تركيا في ولايات عشر، يقطنها الملايين، ناموا في أمان ليستيقظوا فجر الاثنين على زلزال مدمّر، هو الأقوى في تاريخ المنطقة.

في شمالي سوريا المنكوبة بالانقسام وشتات الأهل في حلب وإدلب، ما كادوا يهربون من زلزال الرابعة والنصف صباحا حتى لاحق الأماكن المنكوبة في الدولتين آخر تقارب شدته قوة الزلزال الأول، لنقف أمام كارثة بشرية لا نعرف حدودها حتى الآن، نحن الذين رأيناها من خلال شاشات القنوات ولقطات التواصل الاجتماعي، عشنا في ذهول من هول الكارثة المروعة، وبينما تصرخ ابنتي من الهول، قلت “إنَّ زلزلةَ الساعةِ شيءٌ عظيم” صدق الله العظيم.

بيننا وبين مناطق الزلزال في تركيا مسافات طويلة، نحن الذين نعيش في إسطنبول لم نعرف معنى النوم منذ وقوع هذه الكارثة الكبرى التي أصابت أهلنا هناك. ومنذ اليوم المشؤوم، تتوقف أنفاسنا في كل لحظة انتظارا لخروج إنسان من تحت أنقاض الركام. أحياء كاملة دُكّت بفعل قوة الزلزالين اللذين بلغت قوة أولهما 7.7 درجات، وثانيهما 7.5 على مقياس ريختر، ولم يفصل بينهما سوى ثماني ساعات.

وبين الذين يتم إنقاذهم والمصابين والموتى، تبقى الكارثة الكبرى في مَن هم تحت هذه الأنقاض حتى الآن، لم تقف أمام قوة ما حدث مبانٍ قديمة أو حديثة، عمارات شاهقة الارتفاع أو أبنية متوسطة، لم يبق إلا ما شاء الله له البقاء، لتتجلى الآية الكريمة {يُخرجُ الحيَّ من المَيّتِ ويُخرجُ المَيّتَ مِن الحيّ}، وتبقى العبرة الربانية التي تتلاحق على مدار الساعة ونحن نتابع ما يحدث، والزميل عبد العزيز مجاهد مراسل قناة الجزيرة مباشر يصرخ “نحن لا نستطيع الوقوف في ثبات من عدد الهزات الارتدادية” بلغت حتى اليوم الرابع بعد الزلزال 1400 هزة ارتدادية.

ألم وفراق

أسَر كاملة كانت تحت الأنقاض، فالجميع كانوا نياما فاجأتهم الصاعقة قبل أذان الفجر، نجا أحدهم حينما خرج للصلاة، ونجت إحداهن في سفر بعيد قبلها بيوم أو أيام، وذهب ليلاقي الكارثة مَن عاد مِن سفر بعيد.

في قرية بالشمال السوري، قال أحد سكانها “لا أعرف عدد مَن رحلوا مِن أهلي، رحل وابني وأولاده، وأخي وأبناؤه، وابن أخي وأولاده، لا أستطيع الحصر”. الكارثة التي أصابت شمالي سوريا مضاعفة في ظروفها القاسية، أيام مضت والسوريون يبحثون عن أقربائهم بالأيدي، فالحصار وقلة الإمكانات كانت مصيبة أخرى في الكارثة المدمّرة.

فتاة تركية كانت تقوم بتجهيز شقتها استعدادا للعرس، انتقت كل قطعة في شقتها بعناية شديدة، أصرت على أن يكون منزلها حلم حياتها في جماله ورقيه، أصابتها الكارثة، وخرجت تجري من مسكنها في ظلام الليل، وقالت “كوّنت شقتي كما أحلم، اشتريت كل قطعة ماركة عالمية (براند) وخرجت من تحت الزلزال حافية القدمين، ذهب كل شيء”، ونجت بنفسها من الموت.

رجل تركي وصاحب المنزل كانا يتعاركان على إيجار الشقة، المالك يطالب بمضاعفة الإيجار، والمستأجر يرفض إلا في حدود القانون بنسبة 25% (في تركيا تحدد الدولة سنويا نسبة الارتفاع في إيجار المساكن). يقول المستأجر “بتنا ليلتنا نتعارك على قيمة الإيجار الجديد، وأنا الآن معه في الشارع بلا مأوى، نتقاسم الطعام ونلتحف نحن الاثنان بغطاء واحد”. صارا بلا مأوى إلا تلك الخيام والمعسكرات التي تقدمها الدولة للمتضررين من الكارثة التي حلّت بملايين الأشخاص، سواء في ولايات الجنوب التركي العشر، أو في الشمال السوري المحاصَر من العالم والنظام.

طفولة بريئة

هزّت العالمَ لقطاتٌ مؤلمة تحت أنقاض الكارثة المروعة، هذا الأب التركي وصورته وهو يمسك بيد ابنته التي ماتت تحت الأنقاض، يمسك الأب يد ابنته في برد قارس، ثلوج تغطي الأرض، وبرودة لا نستطيع نحن الذين نرتدي ملابس ثقيلة تحمّلها بهذه الأيام في تركيا وشمالي سوريا ولبنان، هي أيام تساقط الثلوج، لا يترك الأب ابنته في الظلام، ولا يتركها تحت الأنقاض.

موجعة هي الكتابة عن الكارثة، فما بالك بأصحابها الذين قضوا الأيام السابقة وسيقضون أياما أخرى حتى يعودوا كما كانوا؟ وهل ستعود الأيام كما كانت؟ كيف والأهل فارقوا الحياة؟ كيف والأيام والذكريات رحلت؟ كيف وأماكن العيش تغيرت؟ لقد أخرجت الأرض أثقالها، تلك الأثقال التي لا نستطيع رؤياها رؤى العين.

ماذا حدث؟

طفل صغير يخرج من تحت الأنقاض يحمله أحد رجال الإنقاذ، يبدو أنه قد استيقظ الآن على أيدي المنقذين، لقد منّ الله عليه بالنوم طوال الليل حتى وصلت يد المنقذ إليه، خرج من تحت ركام منزله لا يعي ما حدث، يد غريبة تمتد نحوه لتنتشله من حطام منزل وأسرة كان يعيش معها، وببراءة طفولة ونظرات ملائكية يسأل بالتركية “ماذا حدث؟” إنها رحمة الخالق بقلب الطفل الصغير.

طفل آخر حين شعر بغرباء يحملونه، ويخرجون به من تحت أغطيته ومن على سريره، تعارك مع رجال الإنقاذ، إنها طفولة البراءة، وملائكية الأطفال، وقد أحسن الرئيس التركي حينما اصطحب على متن طائرته عشرات من الأطفال الذين لا يعرفون أهاليهم لتسكينهم ورعايتهم حتى يعودوا إلى ذويهم، إن كانوا أحياء.

تتوقف حروف الكتابة لعدم استطاعتها التعبير عن الآلام التي عاصرناها في الأيام الماضية، حتى هؤلاء الشبان الذين لا ينامون في مراكز المساعدات بجميع المدن التركية، وهؤلاء الذين يمرون في أحياء إسطنبول ليجمعوا مساعدات طوال النهار والليل، وتقف أمام عزمهم بتحية وإكبار، هؤلاء حينما تشاهدهم تمتلئ عيناك بالدمع محبة وحزنا وألما.

المصدر : الجزيرة مباشر