في العام الجديد

لولا دا سيلفا

 

لا أذكر أن اليوم الأول في كل عام جديد ترك بصمة معينة عندي، إنه مثل اليوم السابق له، هى أيام تتعاقب في دورة الحياة والأعمار التي تنقص مع نهاية كل يوم وولادة آخر.

في بلاد أخرى، قد يكون للأيام عند ساكنيها معانٍ وقيمة أفضل، وفي بلادنا، وفي مثل هذه الأوضاع، فإن الأيام متشابهات، طبعة واحدة، ويا ليتها تظل على حالها ولا تتغير من سيئ إلى أسوأ، وهي من أسف تتغير إلى الأصعب والأسوأ.

وإذا طال العمر لعام جديد قادم، فربما أقول إن ما فات كان أقل سوءًا مما جاء، ومما يُحزن أن يسير قطار العمر على قضبان غير ثابتة أو مستقرة أو آمنة فيكون الراكب عرضة للاهتزاز أو السقوط.

البلاد الأخرى هى ما وصفتها في مقال سابق هنا بصدفة الجغرافيا في المولد -إذا صح هذا التفسير وذلك المنطق وتلك الرؤية- وهي البلدان التي يكون للفرد فيها قرار في صنع حاضره، وإرادة في تقرير مستقبله، وهي قولًا واحدًا بلدان السياسة المنفتحة والحكم المنتخب الخاضع للدستور والقانون والحقوق المتساوية والحريات والعدالة الاجتماعية.

الحرية والخبز

المواطن السياسي يسبق عندي المواطن الاقتصادي، الأول يعني الحرية، والثاني يعني الخبز، وهو توصيف مجازي، والمعنى أن الحرية هى المدخل للخبز وليس العكس، مع إيماني بأن الجائع لن يستقر عقله ولن يفكر بشكل سليم، إنما الأهم أن المكمَّم والمكبَّل والمقيَّد لن يتمكن من العمل لأجل توفير الخبز أو الحصول عليه، ولهذا فالسياسة هى الباب الأول والأساسي، ومنه تنفتح كل الأبواب الأخرى، وبرنامج التنمية لا بد أن يبدأ بالسياسة.

والاقتصاد قاطرة التنمية هو صناعة السياسة، ومصر بدون سياسة صحيحة حرة متاحة للجميع يصعب أن تحقق مشروعًا اقتصاديًّا تنمويًّا له مردود على شعبها وأوضاعها، وتجارب الحكم السابقة والحالية شاهدة على ذلك، فلم تكتمل تجربة تنمية ولم تحقق أهدافها، ولم تنتقل البلاد من الأزمات إلى الحلول طالما السياسة مقيَّدة وموجَّهة وفردية وأبوية، وهكذا كل بلد آخر ينتهج المسار نفسه المجرَّب عشرات ومئات المرات دون فائدة، بل المصير المعروف وهو تراكم الأزمات وابتعاد الحلول.

الحدث السار في مطلع 2023

ولهذا توقفت أمام عبارة لولا دا سيلفا “الديمقراطية هى الفائز الأكبر في الانتخابات الرئاسية”، هكذا قال في خطابه الافتتاحي بعد تنصيبه رئيسًا للبرازيل لمدة 4 سنوات (يناير 2023- يناير 2027). هذا رجل إنجاز وتنمية فعلية، وله تجربة حكم مدتها 8 سنوات في رئاسة البرازيل (2003-2011)، ثم عاد اليوم رئيسًا وهو طاعن في السن، لكنه بدا في حفل التنصيب شابًّا في الأربعينات من عمره على أقصى تقدير.

هو يدرك من خبرته في الحكم، ثم خارج السلطة، ثم خلال محاكمته في قضية فساد وسجنه عامًا ونصف عام، ثم إسقاط الحكم عنه وتبرئته، أن السياسة هى واجهة التنمية ومدخلها، وأن الديمقراطية وسيلة السياسة الرشيدة.

لم أجد في اليوم الأول للعام الجديد حدثًا أهم من تولي (لولا) السلطة، في بلد تواصل فيه الديمقراطية نجاحها، ومع كل انتخابات حرة فإن البرازيليين يقتنعون أكثر بأن الحكم المدني ضمانة استقرارهم وحلول لمشاكلهم مهما كانت صعبة، وليس الانقلابات العسكرية أو حكم الجنرالات، وهكذا كل بلدان أمريكا اللاتينية صارت تؤمن بهذه القاعدة الذهبية، الحكم المدني المنتخب، رئيس يأتي وآخر يرحل، حكومة تتشكل وأخرى تنصرف، ولم يعد هناك ديكتاتور عسكري أو مدني يمارس القمع ليظل قابضًا على السلطة.

إسرائيل والديمقراطية

البرازيل هى الخبر السار الأول عندي في العام الجديد، ولن أدفن رأسي في الرمال وأتجاهل أن إسرائيل شهدت في اليوم نفسه استلام الوزراء الجدد في حكومة نتنياهو الجديدة مقاعدهم من الوزراء المنصرفين، ومنذ قيامها قبل 74 عامًا لم يتقلد الحكم في إسرائيل شخص بالغصب أو القوة العسكرية، إنما صندوق الانتخاب هو الفيصل، قل إنها ديمقراطية عنصرية أو ديمقراطية المحتل، ولن أختلف معك كثيرًا، لكنها في النهاية احتكام للشعب وإرادته، وليس للدبابة أو الاستفتاء على الحاكم الفرد أو الانتخابات الشكلية المصممة للرئيس الفرد، وستقول إن جنرالات تولوا رئاسة الحكومة ومقاعد وزارية وهذا صحيح، لكن صلتهم بالعسكرية انتهت، وحياتهم صارت مدنية، ويتم التعامل معهم بصفتهم ساسة يتعرضون للهجوم العنيف والنقد الشديد.

وفي ظل الديمقراطية العنصرية، فإن العرب داخل إسرائيل يترشحون ويصوتون ويختارون، ويكون في أيدي نوابهم ترجيح تشكيل حكومة أو إسقاطها.

شعب البرازيل يحتشد احتفالًا بالرئيس المنتخب

البؤس.. والظلام السياسي

نعم، إسرائيل هى العدو، لكنها ديمقراطية لنفسها، والعرب من المحيط إلى الخليج لن تجد لديهم مساحة من ديمقراطية اختيار جادة ومستمرة دون انقطاع أو إطاحة بالإرادة الشعبية.

في لبنان يفشلون أكثر من عشر مرات في انتخاب رئيس، لأن القرار بأيدي الخارج، والعراق مرتهن للمحاصصة الطائفية، وديمقراطية الصندوق مرهونة بتوجيهات أصحاب العمائم، والديمقراطية الناشئة في تونس صودرت، ومصر تشهد أزمات معقدة سياسية واقتصادية واجتماعية.

وفي اليوم الأول للعام الجديد، يستمر البؤس في أفغانستان المنكوبة قبل الاحتلال الأمريكي أو بعد تحررها منه، فحكومة طالبان لا تريد أن تقدّم نموذجًا سياسيًّا إنسانيًّا مقبولًا، ومن يعارضونها بالتفجيرات أشنع منها في تقديم صورة سوداوية لهذا البلد، هدية طالبان لشعبها حظر التعليم الجامعي للبنات، والمتطرفون يدشنون 2023 بتفجير جديد يذهب ضحيته العشرات بين قتلى ومصابين.

عام جديد، نتمنى أن يكون الأخير في حقبة الظلام السياسي، ومن بعده تشرق أنوار الحرية.

رئيس البرازيل
المصدر : الجزيرة مباشر