قراءة وتأملات في عالم مضطرب.. المستقبل والمنطقة العربية؟

تشهد المرحلة الحالية أزماتٍ عالميةً طاحنة، والأوضاع الدولية تسير نحو التبديل والتغيير سياسيًا واقتصاديًا، وسمتها الأبرز السيولة الشديدة، وإن شئت القول فإنها أوضاع فوضوية.

ومع الاضطرابات التي يشهدها النظام الدولي، فإن انعدام اليقين في المستقبل بات سمة القرن الحادي والعشرين، وكلما طال الوقت واستمر الحال على ما هو عليه أصبح الثمن باهظًا فادحًا، ليس على دول المنطقة وشعوبها فحسب، بل على العالم أجمع.

ضعف عربي وأزمة عالمية كبرى

على مدار القرن الماضي لم ينجح النظام السياسي العربي في استثمار كثير من الفرص التي أنتجتها المتغيرات العالمية، بداية من منتصف القرن العشرين.

ويمكن القول إن المنطقة العربية برمتها عجزت عن حجز مكان لها في الركب العالمي، في ظل عدم وجود أزمات عالمية مؤثرة، بل تعمق ارتباطها بالخارج، وباتت غالبية دولها تعيش الآن من وجهة نظري مأزقًا وجوديًا شديد الصعوبة.

الآن، يبدو النظام السياسي العربي، والمنطقة العربية أكثر ضعفًا، وفي مواجهة أزمة عالمية كبرى، هي نتاج صراعات بين معسكر أمريكي غربي يحاول تثبيت هيمنته، ومعسكر يريد التغيير، ويرفض الهيمنة الغربية، تقوده الصين وروسيا.

نظام دولي فاشل وعالم مضطرب

لم يفلح النظام العالمي القائم بعد الحرب العالمية الثانية بمؤسساته ومنظماته الأممية والدولية في تحقيق السلم والهدوء المنشودين، بل أصبح العالم أكثر توترًا، وباتت القوى الكبرى تدير صراعاتها عبر الحروب بالوكالة في أنحاء مختلفة من العالم، وكانت المنطقة العربية والشرق الأوسط عمومًا مسرحًا مباشرًا لهذا الصراع.

العالم بالفعل يعيش حربًا عالمية ثالثة، بدت معالمها أكثر وضوحًا منذ نهايات العقد الثاني من هذا القرن، وهي تأخذ أشكالًا مختلفة، تجارية واقتصادية وحربية، وقد بدأت رحلة الاستقطابات السياسية عبر استخدام القوة بأشكالها المختلفة.

يعيش العالم مرحلة بات الاقتصاد فيها داء العالم ودواءه، وقاصم ظهور الدول، وهادم عروش النظم، وبه يُروض العالم في صراع الهيمنة.

وفي ظل صراع عالمي يبدو مرشحًا للتمدد زمانًا ومكانًا، بات على الدول تحديد خياراتها، في ظل وضع يزداد سيولة وتتوالى فيه المفاجآت.

تحولات عالمية

على مدار سنوات والعالم يعيش تحولات واضحة، يمكن القول إنها مرتبطة بسياسة جيواستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، القطب الأكبر المهيمن على النظام العالمي.

فقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في الخروج تدريجيًا من منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي تسعى فيه لاحتواء الأمريكيتين، وكرست جهودها صوب آسيا والمحيط الهادي.

وقد دعمت أمريكا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، رغم الخسائر الفادحة لهذا الخروج، ولكن كان الوعد بتعويض بريطانيا، وذلك بفتح الأفق للعودة إلى السيطرة على الأماكن التي ستنسحب منها الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار عملية توزيع للقوى الاستراتيجية والعسكرية في العالم، وفقًا للرؤية الأمريكية.

مع دخول العالم في أزمة كورونا، وما صاحبها من ضخ إعلامي أُجبر العالم على الدخول في حالة ركود وأزمة غير مسبوقة، وكانت المؤشرات جميعها تدلل على أن العالم متجه نحو تغيير في المنظومة الدولية.

أمريكا التي كانت تنتج 40% من إنتاج العالم باتت تنتج 20% فقط، ولكنها ما زالت تسيطر على العالم بعملتها الورقية، ويمثل الدولار الأمريكي أكثر من نصف احتياطات العملات الأجنبية في العالم.

والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية بلد مفلس وتسيطر على العالم بالقوة، وبات العالم في ظل هيمنتها يعيش أزمة ديون، ففي أمريكا بلغ إجمالي الدين الوطني وسقف الدين نحو 31.4 تريليون دولار، في ظل عجر أمريكي يقارب تريليون دولار سنويًا منذ عام 2001.

أزمات عالمية بصناعة أمريكية

ومع أزمة الحرب الأوكرانية الروسية، والتي هندستها الولايات المتحدة الأمريكية، كان العالم على موعد مع هزة عنيفة بصناعة أمريكية، وكان لها تأثير مدمر على الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، نتيجة العواقب التضخمية المصحوبة بالركود، الناجمة عن العقوبات المالية والاقتصادية، وحظر التجارة مع روسيا، التي تعد مصدرًا رئيسًا للعديد من السلع الأساسية والموارد الطبيعية، ولكن على أرض الواقع لم يكن الأمر سلبيًا للنخبة الأمريكية والغربية صناع القرار -رجال المال والأعمال والصناعة والنفط-، رغم الآثار السلبية على المواطن الأمريكي والأوربي.

فقد انتعشت سوق السلاح الأمريكية والغربية، إضافة للفوائد العائدة على الصناعة النفطية الأمريكية، نتيجة ارتفاع أسعار البترول، وهذا ما طرحناه في مقال سابق لنا العام الماضي بعنوان: عقاب روسيا أم إرغام العالم.

وقد بينا في المقال أن الحرب في أوكرانيا كانت مجرد حافز لفرض عقوبات ينتج عنها أزمات عالمية في الطاقة والغذاء، مما يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بإجبار الجنوب العالمي على أن يكون مع أمريكا أو ضدها.

المستقبل والمنطقة العربية

ماذا عن المستقبل؟ وما يحمله للمنطقة العربية في ظل عالم متغير؟ سؤال ربما يكون من الصعوبة الإجابة عنه.

فالعالم يعيش مرحلة تزداد فيها مساحة عدم اليقين اتساعًا، وبوصلة التوقع مضطربة، وباتت غير قادرة على تحديد الاتجاه في ظل تسارع المتغيرات، وتعدد الفاعلين، وتشابك القضايا وتنوعها، وعدم وجود ثوابت يمكن البناء عليها لتوقع سلوك القوى الكبرى الفاعلة ولو بنسبة ما.

يلوح في الأفق أن العالم مقبل على مرحلة صعبة ومؤلمة، السمة الأبرز فيها هي: ارتباك النظام الدولي، وفشل للعولمة، وركود اقتصادي واسع النطاق، وقد يكون من الصعوبة التنبؤ بكل شيء، ولكن ما يبدو واضحًا هو: أن لا شيء في المستقبل سيبقى كما هو عليه.

من المهم أن تتعامل دول المنطقة بواقعية مع المتغيرات الحالية انطلاقًا من مصالح شعوبها، في ظل عالم تتضاءل فيه فرص السلام، ويهدده باستمرار شبح الحرب.

إن التطورات العالمية المتلاحقة هي أكبر تحدٍ يواجه المنطقة العربية والعالم الآن، فهناك زلزال عنيف هز العالم الفترة الماضية، وتوابعه لن تتوقف في المستقبل القريب، ففي الصراع الدائر الآن من أجل الهيمنة وأحد مسارح عملياته في أوكرانيا، تضيق معه فرص المناورة العربية، وبات من الصعوبة القول إن الموقف الوسط من الممكن أن يكون ملاذًا آمنًا، والمنطقة العربية قد يكون من مصلحتها تفوق روسيا في الحرب، ولكن على جانب آخر لا يمكنها أن تساعد، كما لا تملك تأثيرًا في طرفي الصراع، ولذلك ستظل المنطقة العربية خاضعة للضغوط طالما استمرت هذه الحرب واتسعت جبهاتها.

الخلاصة

يعيش العالم الآن مرحلة هي من أشد المراحل ارتباكًا في العصر الحديث، في ظل صراعات الهيمنة الدولية، وأصبح النظام العالمي في مرحلة تيه، فلا هو قائم على ثنائية القطبية، ولا هو قابل للدخول في مرحلة تعدد الأقطاب، ويبدو أن تلك الحالة ستستمر لمدة حتى يحتدم الصراع على الأرض بين المتنافسين الكبار، وبقاء هذه الحالة هو أمر شديد الخطورة على المنطقة العربية، التي ما زالت دولها تعاني من التبعية على مدار عقود، وظلت مسرحًا تدير خلاله القوى العظمى معاركها العسكرية والسياسية والاقتصادية بالوكالة.

من الخطورة أن تظل دول المنطقة في انتظار ما يسفر عنه صراع الهيمنة، لأنها لن تسلم أبدًا من تبعاته، ولكن الحالة الراهنة تستوجب تحركًا جماعيًا من دول المنطقة، للخروج من دائرة المفعول به، فإن الأزمات والوقائع الكبرى تدفع نحو البحث عن الحلول، حيث لا وجود للاختيارات.

المصدر : الجزيرة مباشر