معضلة الحاكم الأبدي في مصر

تخلى حسني مبارك عن حكم مصر بعد 18 يوما من مظاهرات عمت البلاد، تلك المظاهرات التي بدأت ظهيرة يوم 25 بدعوة من مجموعة من الحركات السياسية خاصة حركة كفاية وحركة 6 أبريل، وأعضاء صفحة خالد سعيد، وعدد قليل من الأحزاب السياسية احتجاجا على ممارسات الداخلية التي تورطت خلال الأشهر الأخيرة في عديد من الجرائم الإنسانية.

كانت المطالبات للمتظاهرين إقالة وزير الداخلية وتطهير جهاز الشرطة -لم يتم حتى الآن- تطورت الأحداث بإرادة الجماهير أو بمشيئة الأقدار لنصل إلى تخلي مبارك عن الحكم وتكليف المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد، حسب بيان عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، وانطلقت الأفراح وعمت ربوع القطر المصري بالتنحي والتكليف.

لأول مرة تنحى رئيس عن الحكم تحت ضغط شعبي، وبعيدا عن ملابسات هذا التنحي التي تحتاج إلى قراءة متأنية لفهمها، فإن مبارك في ذلك العام كان قد دخل عامه الثلاثين بعدة شهور في حكم مصر، 30 عاما ومبارك يحكم بلدا بحجم مصر، وفي النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الجديد.

عندما قامت التظاهرات التي قُدّر لها أن تكون بعدة آلاف، لم يكن لمنظميها أي طموح في إسقاط النظام، أو تنحي رئيس الجمهورية، ربما كان حلما لشباب قليل. خمس دورات رئاسية ومبارك يحكم، لم تُطرح فكرة انتخابات ومنافسات للرئيس سوى في الدورة الأخيرة 2005 تحت ضغط أمريكي غربي (لغرض في نفس يعقوب).

لم يفكر أحد من المصريين المشتغلين بالسياسة في منافسة مبارك في الدورة الثالثة أو الرابعة في 1993 و1999، بل إن المرة الوحيدة كانت تحت ضغط غربي.

لماذا ترك المصريون مبارك يحكم طوال هذه المدة؟ وهل كانت تلك الحالة من وعي المصريين بعدم أهمية تأبيد الحاكم جديدة على التاريخ المصري حديثه وقديمه؟

الواقع المرصود يؤكد أن المصريين يتعايشون مع الحكام أيا ما كانت صلاحيتهم من عدمها، كأنهم قدر لا فكاك منه حتى يأتي قدر الله، الذي هو في أحيان موت، وفي أخرى انقلاب عسكري، أو نهاية دولة وقيام أخرى. تلك الأحداث هي العامة على الحكم في مصر، حتى وإن ظهرت حركات ضئيلة تنادي بخلع الحاكم أو تنحيه.

إن الثورة الشعبية الأكثر تأثيرا في التاريخ الحديث (مارس/آذار 1919) لم تقترب من حكم الملك فؤاد الذي حكم البلاد في الفترة من 1917 إلى 1936. عقدان من الزمان كان فؤاد يحكم فيهما مصر ولم تقترب ثورة شعبية ضخمة من عرشه، نادت بالاستقلال وإجلاء الاحتلال الذي يحكم تحت ظله الملك ولم تقترب منه، نادت بحياة ليبرالية وديمقراطية، وانتخابات برلمانية، ولم تقل إن فؤاد الذي ارتضى العيش والإنجليز يرتعون في البلاد كما أرادوا يتنازل عن الحكم، واستمر فؤاد الثاني في الحكم حتى جاءته المنية بعد 19 عاما من الحكم.

المستنصر بالله الطفل المؤبد

هل كان فؤاد الأول استثناء؟ لا بالطبع، فقد عاش أغلب سلاطين وملوك مصر على العرش في معظم دول الخلافة الإسلامية هكذا، لم يُستثنى منهم سوى خورشيد باشا والي مصر في أعقاب ثورة مشايخ الأزهر والمصريين عليه بقيادة عمر مكرم، وجاء المصريون بمحمد على. الأغرب في موضوع محمد علي أنه تأبد في الحكم 43 عاما، لم يثر المصريون عليه، وتولى بعده ابنه إبراهيم باشا شهورا حتى وفاته، طوال هذه المدة رضي المصريون بالوالي البناء الذي أعاد بناء مصر حسب رؤيته (ليس محل المقال نقاش حكمه).

أما أغرب ما تم في حكم مصر فكان حكم المستنصر بالله الخليفة الفاطمي، تولى المستنصر حكم مصر بعد وفاة والده الظاهر لدين الله وهو طفل لم يتجاوز الثامنة من عمره، استمر حكم المستنصر لمدة 59 من 1036حتى 1095.

طوال هذه الفترة حكم الخليفة مصر، ولم يكن طول المدة ولا ما تعرضت له البلاد في حكمه من أزمات طاحنة، ولعل الشدة المستنصرية الشهيرة أقصى درجات الأزمة، سببا في تغيير الحاكم أو ثورة المصريين عليه. الطفل الذي بدأ حكمه في مظلة وزيره القوي أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي، وأنقذه من الشدة في أواخر عهده وزيره بدر الدين الجمالي، لم يحرك غضب المصريين حتى وفاته بعد أكثر من نصف قرن من الحكم.

من فاروق حتى الآن

قدر محتوم، هكذا يرى المصريون الحكام، يتظاهرون احتجاجا على. الاحتلال نعم، لكن على الملك أو الرئيس الذي يترعرع في ظله لا، يتظاهرون فيغرقون في النيل بفتح الكباري 1936، لكن الملك بعيد عن ذلك، فهو مولانا المفدى.

هكذا جاء مولاهم فاروق المعظم بعد وفاة والده ليتولى حكم مصر من 1936 حتى 1952، يحكم فاروق تحت رعاية الإنجليز، ويُجبرونه على تغيير الوزارة تحت الدبابات في فبراير/شباط 1942، والمصريون ينادونه بالملك المعظم. يسقط فاروق بانقلاب عسكري فثورة مباركة، فحاكم جديد لمدة عامين محمد نجيب، فحاكم جديد لمدة 16 عاما، رحل فاروق عن الحكم بعد 16 عاما، وعاش بعدها 13 عاما حتى وفاته عام 1965 في إيطاليا، فهل لو لم تكن ثورة يوليو 1952 كان سيظل حاكما؟ نعم، هكذا تاريخ المصريين.

جاء نجيب عابرا ثم تولى جمال عبد الناصر الحكم، ومع إيماني بالتجربة الناصرية ورؤيتي لفترة حكمه لكني أتساءل أيضا: إذا كان جمال هُزم في 1956 كما يقول منتقدوه، فلماذا لم يثر عليه المصريون؟ إذا كان جمال قد أمّم المال الحلال -لا أوافق على أي مقولة تورد هناـ فلماذا لم يقم المصريون بخلعه؟ إذا كان جمال الذي هُزم في 1967 وتنحى عن الحكم، فلماذا بكى المصريون في الشوارع لعودة القائد المهزوم؟ بعيدا عن انتمائي الناصري الذي ازداد به إيمانا مع الأيام، لكنى أتساءل: لماذا يشعر المصريون دائما أن الحاكم أب أو ولي أمر الشعب؟

هكذا يستمر ناصر في الحكم حتى وفاته في سبتمبر/أيلول 1970، هل علينا أن نعيد قراءة التاريخ ونعيد مفاهيمنا عن الحكم حتى نعبر إلى المستقبل؟ ولا بد لنا من ترسيخ فكرة الرئيس الموظف بعقد محدد المدة وليس أبديا حتى نغيّر الفاسد والمستبد، وأيضا نغيّر العادل البناء، أو الديمقراطي، والثوري. النقاش هنا ليس عن صلاحية الحاكم أو عدم صلاحيته، عدله أو ظلمه، متى نتعود على فترة رئاسية محددة؟

مات جمال عبد الناصر كما فؤاد كما سعيد، وتوفيق، وإسماعيل حاكما، وقُتل أنور السادات أيضا حاكما، أنور السادات صاحب قرارات الانفتاح الاقتصادي وبداية مشاوير البيع، أنور السادات الذي بدأ رفع الدعم في عهده، صاحب مقولة “من لم يكوّن ثروة في عهدي لن يموت غنيا”، صاحب تفتيت الأمة العربية بزيارة القدس واتفاقيات السلام مع الصهاينة، لم يتم تغييره بثورة شعبية، لم تصل أي محاولة احتجاجية للمطالبة بتغييره، لكن انتهى عصر السادات برصاصات المنصة التي لم يُحل لغزها حتى الآن.

ولا يزال حكم مصر مؤبدا فرعونيا مملوكيا أيوبيا جمهوريا عسكريا حتى الآن، قال لي أحد قادة حراك أو تظاهرات 25 يناير، حينما قلت إنها ثورة فاشلة وإنها نصف ثورة، قال “لم تكن ثورة ولا ذات قيادة ولا خطة لما بعد مبارك، فقد كانت مظاهرات ضد ممارسات حبيب العادلي وغايتها إقالته”.

تلك كانت طموحات الحدث الجلل والأعظم الذي عاشه جيل يقف الآن على أعتاب الستين من عمره، أي إن مبارك الرئيس لم يكن في حسبان قادة يناير، ولو أقال العادلي، لظل مبارك حاكما حتى وفاته. فهل تأتي الرياح بما يخالف التاريخ الأبوي للحاكم في مصر؟ أتمنى، لكن هذا يحتاج إلى جهد نتكاتف من أجله لتغيير مفهوم الحاكم الأبدي.

المصدر : الجزيرة مباشر