الحكام البشر.. والحكام فوق البشر!

جاسيندا أرديرن

 

رغم سقوط أسطورة أن الحاكم فوق البشر، باعتباره يحكم بالحق الإلهي المطلق، أو أنه نصف إله، أو له قداسة خاصة ليكون فوق المحكومين، رغم التطور السياسي والثقافي والفكري الواسع في دحر هذا الزيف المخلوط بدجل ديني انتهازي والذي ساد أوربا خصوصًا في عصورها الوسطى التي تُوصف بالظلامية، فإن هناك مِن الحكام خارج الديمقراطيات مَن لا يزال يعتبر نفسه فوق البشر.

حتى وإن اختفت مقولات الحق الإلهي في الحكم في الخطاب العام، لكنها لا تزال تُقال بالفعل، بصيغ وعبارات مختلفة مخففة، وتصب في الخانة ذاتها التي تمنح قداسة وحصانة كاذبة لبشر يحكمون بشرًا مثلهم، وليت هؤلاء يحققون فائدة لشعوبهم تجعل لهم ميزة وقيمة، وتبرر -ولو غصبًا عن النفس- استبدادهم بالسلطة.

أوربا تخلصت من فوقية الحاكم، ولم يعد فيها ذلك السيد العلوي، وأولئك العبيد الذين لا يمتلكون قدرة على رؤيته، فضلًا عن مخاطبته، فقد صار الحاكم من اختيار البشر، يتم جلبه برغبة شعبية ليجلس على كرسي الحكم لفترة محددة دستوريًّا، وبعدها إما يمنحونه علامة النجاح أو الفشل عبر انتخابات حرة، وليس تعيينًا وتنصيبًا ملكيًّا. صار الشعب هو السيد، والحاكم في خدمة هذا السيد.

وإذا كانت ذكرى يناير تحل علينا الآن، فإنه يكفي أن تتلفت حولك لتجد أن شعاراتها وأهدافها تتبدل، حتى شعارها الأول وهو العيش بمعناه الأوسع في العدالة الاجتماعية الشاملة، أو بمعناه المباشر في الطعام والشراب والعلاج والكساء والسكن، بات بحاجة إلى الكفاح المرهق لتأمينه، أما أهدافها السياسية فقد صارت أبعد مما قبل يناير.

أزمة حكم لا يستلهم دروس التاريخ

جوهر الموضوع هنا يتمثل في الساسة الذين هم بشر، والساسة الذين يعتبرون أنفسهم من طينة ليست من أديم الأرض، وهذه أزمة الحكم في نطاقات جغرافية لا تريد أن تستلهم دروس التاريخ وتجارب دول ونطاقات جغرافية تخلت طوعًا وبالتراضي والتوافق عن المقولات القديمة في الحكم الاستعلائي، فتحررت وانفتحت وتطورت وتقدمت وتساوت الرؤوس.

فالحاكم موظف عام يدير شؤون الدولة، ويُراقَب ويُحاسَب، والمحكوم له حقوق لا تُمَس، وعليه واجبات مُلزمة، والفيصل بين الطرفين القانون والدستور، لهذا لن تجد حاكمًا مكروهًا بقلب أسود من مواطن، إنما ستجد حاكمًا يتم مناقشته بأمان واطمئنان والاتفاق أو الاختلاف معه، وهو يلتقي مع مواطنيه بعدما يترك السلطة، فيصافحونه ويتبادلون الحديث معه بمحبة ولطف، هكذا 5 رؤساء أمريكيين، و7 رؤساء حكومات في بريطانيا، ورئيسان في فرنسا، وعدد كبير من القادة في بلدان أوروبا والديمقراطيات غربًا وشرقًا، يعيشون مثل كل مواطني بلدانهم اليوم بعد أداء واجبهم في الخدمة العامة.

لكنك لن تجد ذلك في بلدان أخرى لا وجود للتداول السلمي للسلطة فيها، والحكام في عزلة عن شعوبهم وحقائق الأوضاع على الأرض.

جاسيندا العظيمة

رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، أحدث قيادة تنضم إلى طابور الحكام السابقين طوعًا، وهي لم تكن بحاجة لتقول إنها بشر لها طاقة وقدرة، وليست فوق البشر فلا تمسها متاعب الحكم، إنما قالت كل ذلك وأكثر في خطابها لإعلان استقالتها المخلوطة بدموعها قبل أيام.

سجّلت المرأة العظيمة معاني رائعة في التعامل مع الحكم، بأنه ليس ميزة لا يمكن التخلي عنها إلا وقت الهزيمة الانتخابية أو تغيير القيادة داخل الحزب، فقد تجاوزت ديمقراطيات عريقة في فهم فلسفة الحكم والزهد فيه والصراحة مع النفس بوصولها إلى خط النهاية، رغم أنها لا تزال شابة يافعة.

لم تمكث في السلطة 42 عامًا مثل (القذافي) أو 34 عامًا (علي صالح) أو 30 عامًا (مبارك، البشير) أو 24 عامًا (بن علي) أو 20 عامًا (بوتفليقة)، وقد أسقطهم الربيع العربي، وبشار الأسد يحكم منذ 23 عامًا، وتسبب باستبداده في دمار بلاده، ومن جاؤوا بعد انكسار الربيع يعيدون نمط الحكم القديم سبب جوهر الجمود والأزمات.

جاسيندا قضت خمس سنوات ونصف سنة فقط في الحكم، وحققت نجاحات مشهودة، أما نجاحها السياسي والأخلاقي الراقي فكان في معالجتها بقوة وشجاعة ووطنية وعاطفة وإنسانية للجريمة الإرهابية الشنيعة التي ارتكبها متطرف يميني عنصري بحق المسلمين خلال صلاة الجمعة في مسجدين بمدينة كرايست تشيرش في مارس/آذار 2019.

صدارة التاريخ

لقد كسبت عقول وقلوب شعوب العالم، والمسلمين بخاصة، لإنسانيتها النموذجية في إدانة ومعالجة آثار الجريمة البشعة دون تلكؤ أو التفاف أو مهادنة للإرهاب.

وقد دخلت التاريخ من أبواب عدة، فهي أصغر رئيس حكومة بالعالم حيث كانت في الـ37 عندما تولت السلطة، وقدّمت تجربة نادرة في مواجهة كورونا (25 وفاة فقط)، وحققت فوزًا ساحقًا نادرًا لحزبها في انتخابات 2020، وعندما تقول وهي تغادر السلطة “الساسة بشر، وأنا إنسانة، نحن نعطي كل ما بوسعنا لأطول فترة ممكنة، وبعد ذلك يحين الوقت، وبالنسبة لي فقد حان الوقت”، فإنها بذلك تضع نفسها في صدارة التاريخ، وتُثبت أنها قائدة عظيمة قولًا وفعلًا.

المصدر : الجزيرة مباشر