الأزمة المالية في ميزان القوانين القرآنية

لا يغيب عن عقيدة المسلم أن العبثية لا وجود لها فيما يجري من أحداث، وما يعتري الكون من تغيرات وتقلبات، فالقرآن يُرسي قواعد حاكمة، وضوابط قاطعة، يقول تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49).

ومن أسماء الله تعالى: القابض الباسط، فكل قبض في الدنيا من إرادته وحكمته، وكل بسط في الكون من عطائه وتقديره.

وعليه فإن الأزمات المالية التي تتعرض لها البشرية، أو تتعرض لها بعض الأقطار، إنما هي في الأصل نتيجة حتمية لمخالفة قانون من القوانين القرآنية، وأثر مباشر للغفلة عن منهج القرآن في حماية المجتمعات والأمم من تلك الأزمات والكوارث.

وهناك قوانين أربعة في القران الكريم تعتبر مخالفتها أو مخالفة أحدها فتحًا لباب من أبواب الفتن والبلاءات، واستجلابًا للأزمات، وإغضابًا لرب الأرض والسموات.

وأول هذه القوانين: قانون الربا قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279).

فالإصرار على أكل الربا جريمة شرعية، واعتداء سافر على حدود الله تعالى، وقد حذر الله من العواقب الوخيمة لمن سلك سبيله، وانتهجه وسيلة للكسب والثراء، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 278).

ومن المواد التفصيلية لهذا القانون قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275).

فلا يمكن أن ينجحوا مهما جمعوا، ولا أن يُفلحوا مهما اكتسبوا، فالبوار عاقبتهم، والسقوط مآلهم، والخسارة مصيرهم المحتوم.

وإن الأمة التي تعتمد على الاقتراض لا يمكن أن تقيم حضارة، أو أن تُحقق تقدمًا، أو أن تكون لها استقلالية قرار، فهي أمة أسيرة لأصحاب الديون، أنظمة كانوا أو أفرادا، أو مؤسسات.

وإن الذين يتيهون بموافقة البنك الدولي على إقراضهم إنما يفتخرون في الحقيقة ببيع مقدرات شعوبهم، والتنازل عن كرامتهم، فقد أضحوا في الواقع أسرى ورهائن يعبث بهم الدائنون كيفما أرادوا!!

فالأنظمة التي تُلقي بشعوبها في أتون محرقة القروض الربوية تحكم على حاضرها بالفساد، وعلى مستقبلها بالضياع، وتقطع عن نفسها مدد السماء، بل تستعدي غضب الله تعالى وتستهين بحربه وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي لا تدري فداحة ما ترتكبه من جرائم في حق نفسها ومجتمعها، وما تقترفه من آثام بالاعتداء على حدود ربها، وما عليها إلا أن تنتظر عقوبته التي لا تُرد عن القوم الظالمين {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هو} (المدثر: 31).

قانون الترف

الترف معناه التوسُّعُ في ملاذِّ الدنيا وشهواتها، ومُجاوزة حدِّ الاعتدال في التعامُل مع النِّعَم، والمترف هو من أبطرته النعم وسعة العطاء، والترف من أبرز أسباب الكساد والفساد والخسران، قال تعالى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (الإسراء: 29).

وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16).

فحينما يتحول الرؤساء والوزراء والمديرون والرواد في الأمة إلى طبقة مترفة تغوص في أودية الترف حتى تضحى تبعيتها لمساراته ومظاهره مقدمة على متابعتها لشرع ربها، يصبح الهلاك حتميًّا، قال تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: 116).

وحينما تُنفَق الأموال ببذخ على تلميع الصورة، وذياع الصيت، وتبرير الخطايا، وبناء القصور والملاهي، والتوسع في الإنفاق على الملذات والحفلات والمؤتمرات وغيرها، تسقط البلاد حتمًا في أتون الكساد والبوار، قال تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16).

والترف ليس فعلا فرديًّا، وإنما هو سلوك جماعي، فهو في كل الآيات يأتي بصيغة الجمع  وليس بصيغة المفرد، وهو ما يشير إلى الفعل الجمعي، والتوجه المجتمعي، حتى عند من لم يملك أدواته، قال تعالى عن أمثال هؤلاء حينما رأوا ترف قارون: {يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: 79).

والترف تظهر آثاره في تقاليد وعادات يحوّلها المجتمع إلى ضرورات لا يمكن التنازل عنها، فيسقط الناس صرعى للترف في مناسباتهم وأفراحهم، وحتى في أحزانهم!!

قانون الظلم

إن الوقوع في الظلم بكل صوره وأشكاله يورد الأمة كلها موارد الهلاك، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25).

والظلم قد يظن بعض الناس أنه مَرّ ونسيه الناس أو تناسوه، ولكنهم غفلوا عن قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (إبراهيم: 42).

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر الأفراد من آثار الذنوب على أرزاقهم فقال: “وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه” (أخرجه أحمد)، فإن المجتمعات والأمم كذلك تُحرم السعة والبركة حينما تُوغل في الظلم، ولن يُرفع عنها الهلاك إلا بإقلاعها عن المظالم، ومهما اتخذت من وسائل، وجمعت من عطايا وإمدادات، فلن يُكتب لها فلاح، لأن قانون القرآن يقول: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (القصص: 37).

وعليه فإن تلك المظالم التي أوغلت فيها الطغمة الحاكمة، فسفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وانتهبت الثروات والممتلكات، واختطفت صفوة من خيرة رجال الأمة ونسائها، فغيبتهم في أقبية المعتقلات، لن تمر سُدًى، ولن تمضي هباءً، لأن الله توعدهم فقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 14).

قانون السببية

إن الله قد خلق الأسباب ووضع لعباده في الكون سننًا تضبط حركة حياتهم دون محاباة أو مجاملة، ودون تغيير أو تبديل، فهي مطردة لا تتخلف، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 62).

وإن الله تعالى يحاسب المفرطين المقصرين كما يحاسب المعتدين الآثمين، ولقد وصف الله تعالى المنهج الرشيد للحكم في القرآن، فقال سبحانه عن ذي القرنين  {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فأتبع سَبَبًا} {الكهف: 84، 85)؛ لذا فإن إهدار الأسباب، وتجاهل دراسات الجدوى، والتعالي والتعالم هو عين الجهل والحماقة التي تعتبر من أوسع أبواب الخسران في الدنيا والآخرة، كما أن تفريغ المؤسسات من الأكفاء والخبراء جريمة أخرى تعصف بكل أمل في النجاح، وتغلق كل باب للفلاح.

لذا فإن الحلول التي تُطرح بمعزل عن إعادة العلاقة بقوانين القرآن والانضباط بهديها لن تُجدي نفعا، ولن تزيد الأزمات إلا تفاقما، والكوارث إلا اتساعا. وحقيقة فإن الخطاب هنا للأمة أصالة، فهي المعنية به، وهي المسؤولة عن المراجعات كل فيما يخصه، وهي كذلك التي تصطلي بنار شؤم مخالفته.

وأخيرًا أقول:

الظلم إذا لم يكن هناك من يبذل جهده لإيقافه فإن عاقبته ستلحق بكل أخضر ويابس، ومتحرك وساكن.

والترف إذا لم نحذر عواقبه، ونتجنب مزالقه، ونهجر أهله، ونصد أدعياءه، فإن تاريخ المترفين شاهد لا يعتريه النسيان، وعاقبة المترفين في الدارين لا تحتاج إلى كثير استدلال واستشهاد، فقد ذهب المترفون وبقيت آثارهم تشهد بفقرهم بعد غنى، وذلهم بعد عز، ونزولهم بعد ارتقاء.

والربا إذا لم يقلع الأفراد عن تعاطيه، والمجتمع عن تداوله، والأمة عن استساغته، فإن الخراب سيحيط بالجميع من أخمص الأقدام إلى أعالي الرؤوس، وساعتها لا ندم ينفع، ولا بكاء يشفع.

أما عن منهجية القرآن في معالجة الأزمات المالية فسنتناولها بإذن الله في المقال القادم.

المصدر : الجزيرة مباشر