الاستفتاء الجماهيري لتحصين الحجاب بعد مواقف المعارضة التركية

حزب العدالة والتنمية يخشى من تعرض الحق في ارتداء الحجاب للأهواء الشخصية

يبدو أن تركيا على موعد جديد مع معركة أخرى ترتبط بحرية ارتداء الحجاب، مما قد يضطر معه حزب العدالة والتنمية لطرح مقترحه الخاص بتحصين حرية ارتداء الحجاب دستوريًا على الاستفتاء الشعبي لحسم الأمر، بعد أن كشفت المعارضة عن نواياها الخفية، وحقيقة رؤيتها لهذه المسألة، ورفضها لها كونها خطوة غير ضرورية، وذلك استباقًا لبدء جلسات مناقشة التعديلات الدستورية الخاصة بهذا الأمر داخل البرلمان في جلساته المقبلة.

أحزاب المعارضة خاصة حزبي الشعب الجمهوري والجيد يدركان جيدًا مدى أهمية وتأثير أصوات تيار المحافظين والإسلاميين في حسم الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما أدى من وجهة نظرهم إلى استمرار العدالة والتنمية في السلطة على مدى عشرين سنة كاملة دون منافسة حقيقية.

لذا سعيًا على مدى العامين الماضيين لاستقطاب أكبر شريحة منهما، عبر إطلاق الكثير من التصريحات التي تحمل في طياتها كما لا بأس به من التطمينات، والتعاطف، حتى وصل الأمر إلى الإعلان صراحة عن الشعور بالندم للسياسات التي تم انتهاجها ضد الإسلاميين في الماضي، وتقديم الاعتذار للمحجبات، بل واقترح كمال كيليشدار أوغلو زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري إقامة هيكل في أحد أهم الميادين العامة تعبيرًا عن مدى تضامنه وحزبه مع المحجبات، واعترافًا منهم بحق الجميع في اختيار ما يرونه مناسبًا لهم، بما في ذلك الحق في ارتداء المحجبات للزي الذي يرينه أنه الأنسب لهن.

وذهب الرجل إلى أبعد من هذا، حينما أعلن إن حزبه يقوم بإعداد مشروع قانون يضمن للمحجبات الحق في ارتداء الحجاب، ويبعد عنهن شبح المنع والحرمان من حقوقهن المشروعة في وطنهن، كما سبق وأن حدث.

اللعب على كل الحبال، وممارسة التقية

إلا أن اقتراب موعد جلسات البرلمان المخصصة لمناقشة هذه المسألة كشف عن الوجه الحقيقي لأحزاب المعارضة الأكثر تمثيلًا في البرلمان، ونقصد بهذا أحزاب الشعب الجمهوري، والجيد، والشعوب الديمقراطي.

ففي أول تصريح له عقب لقائه مع وزير العدل، صرح أنجين أتلاي رئيس المجموعة البرلمانية للشعب الجمهوري أن حزبه لن يدعم أية تعديلات دستورية جديدة يقدمها العدالة والتنمية، وأن مشروع القانون الذي تقدم به حزبهم بشأن حقوق المحجبات كان كافيًا لو وافق عليه العدالة والتنمية، ولم تكن هناك حاجة فعلية حينئذ لإجراء أية تعديلات دستورية.

وفي تغريدة لها على تويتر أعلنت جنان كفتانجي أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول أن حزبها يمارس التقية في تعامله مع الإسلاميين والمحافظين، وأنه يبدي تعاطفًا وهميًا لهما من أجل استقطاب أصواتهم في الانتخابات، وأنهم لن يغيروا مسارهم العلماني، والقاعدة الشعبية لحزبهم تدرك ذلك تمامًا. كلمات قليلة لكنها كانت كفيلة بنثر كافة جهود كمال كيليشدار أوغلو في الهواء كأنها نسيًا منسيًا.

أكشنار واتهام العدالة والتنمية بالإفلاس

أما ميرال أكشنار زعيمة حزب الجيد فقد اتهمت حزب العدالة والتنمية بالإفلاس، وأنه يسعى لتوظيف مقترحه الجديد في الدعاية الانتخابية لحزبه، والحفاظ على قاعدته التصويتية التي يمثلها الإسلاميون والمحافظون، متسائلة عن السبب الذي منعه من طرح هذا الأمر على مدى العشرين عامًا التي قضاها في السلطة، ولماذا الآن خصوصًا؟ وأن الحجاب لم يعد مشكلة، وأن ما تم إقراره من قوانين وتشريعات بهذا الشأن كافية من وجهة نظرها.

الشعوب الديمقراطي ولعبة المساومة السياسية

وخلافًا لموقف حزبي الشعب الجمهوري والجيد الرافضين بشكل مطلق، يبدو أن حزب الشعوب الديمقراطي ثالث الأحزاب الممثلة داخل البرلمان قرر توظيف الأمر لصالحه، والمساومة بهذه الورقة لتحقيق مكاسب للأكراد الذين يمثلهم، مقابل دعمه لمقترح الحزب الحاكم، الذي يخدم في نهاية المطاف شريحته الانتخابية هو الآخر، مع التأكيد أنهم يؤمنون إيمانًا مطلقًا بضرورة إزالة جميع الحواجز التي تعيق حرية الحجاب.

وفي هذا الإطار طالب الشعوب الديمقراطي بأن يتم التعديل الدستوري وفق مبدأ المساواة، شاملًا لجميع الحقوق والحريات التي تؤمن للمواطن حرية المعتقد، والثقافة، والهوية، والمساواة في استخدام اللغة الأم، وغير هذا سيعدّ التعديل الذي يسعى إليه الحزب الحاكم ناقصًا، ولا يعبّر عن جموع المواطنين الذين يعيشون في كنف هذا الوطن، في إشارة واضحة إلى مطالب الأكراد.

استفتاء المواطنين هو الحل لتحصين الحجاب دستوريًا

هذه المواقف الكاشفة، أكدت في مجملها صحة مخاوف العدالة والتنمية، والخاصة بإمكانية تعرض الحق في ارتداء الحجاب للأهواء الشخصية، والتقلبات السياسية، والأجندات الحزبية، مما سيدفعه دفعًا على ما يبدو، وكخطوة أخيرة، للجوء إلى استفتاء المواطنين حول رؤيته لتحصين الحجاب، وحماية حق المحجبات في العيش داخل وطنهم وهم يتمتعون بكافة حقوق المواطنة دون تهميش أو تجاهل.

فالعدالة والتنمية من خلال رغبته في إقرار هذه التعديلات الدستورية بشتى السبل يسعى إلى الحفاظ على المكتسبات التي حظيت بها المحجبات بعد إقراره للعديد من القوانين والتشريعات التي سمحت لهن بالعودة إلى الحياة الطبيعية داخل وطنهن خلال مدة حكمه.

حيث حرص الحزب منذ سنواته الأولى في السلطة على استعادتهن لجميع حقوقهن التي سُلبت منهن لا لجرم ارتكبنه، وإنما لمجرد أنهن اخترن بكامل إرادتهن الالتزام بالزي الإسلامي الشرعي، وارتداء الحجاب، مع البعد عن مظاهر التغريب كافة التي سعى إلى إقرارها مصطفى كمال أتاتورك، والتي عاشتها تركيا رغمًا عنها منذ إلغاء دولة الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية العلمانية.

التعامل بقسوة وعنف إرضاء لسلطة العسكر الانقلابية

عقود طويلة من المعاناة والتهميش على أيدي الأحزاب العلمانية واليسارية التي تعاقبت على الحكم منذ هذا التاريخ، والتي بلغت ذروتها في الثمانينيات من القرن الماضي، وتحديدًا عقب انقلاب 1980 الذي قادة الجنرال كنعان إفرين بحجة حماية المبادئ الأساسية للجمهورية التركية وفق رؤية مصطفي كمال أتاتورك العلمانية.

حيث تم لاحقًا الاستعانة بحزب الشعب الجمهوري الممثل للفكر العلماني الأتاتوركي على الساحة السياسية، وحامل لوائه، لتنفيذ تعليمات العسكر الانقلابيين وأوامرهم التي اتسمت بالدموية والديكتاتورية، وكان الإسلاميون والمحافظون من أوائل الفئات التي تم استهدافها بكل قسوة وعنف من جانب قيادات الحزب لإثبات ولائهم للعسكر.

إذ قاد الحزب حملة وحشية ضد الحجاب والمحجبات اللاتي منعن من استكمال دراستهن الجماعية، ومن الانخراط في العمل داخل مؤسسات الدولة، أو حتى مجرد دخولهن إليها لقضاء مصلحة خاصة لهن، كما تم منعهن من استخدام وسائل المواصلات العامة، أو التداوي في المشافي التابعة للدولة.

معاناة لا يريد العدالة والتنمية تكرارها لأي سبب

لقد عوملت المحجبات لفترات طويلة وكأنهن لا ينتمين لهذا الوطن من قريب أو بعيد، بعد أن تم تجريدهن من جميع حقوقهن بصفتهن مواطنات تركيات، ولم يُترك لهن سوى الإحساس بالظلم والقهر والعجز عن مجابهة سلطة تحميها مؤسسة عسكرية انقلبت على الديمقراطية، وحلت البرلمان، ونفت القيادات السياسية، وزجت بالآلاف في المعتقلات، ووطأت بأقدامها الدستور.

مرحلة سوداء من تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، يخشى العدالة والتنمية عودتها، لذا يعمل جاهدًا من أجل ضمان عدم تكرارها، والتصدي لها عبر حزمة من التعديلات الدستورية التي يجاهد لإقرارها، خصوصًا بعد أن كشفت المعارضة التركية عن وجهها العلماني الذي لن يبقى ولن يذر إذا ما تبوأ أحد أحزابها يومًا ما السلطة.

المصدر : الجزيرة مباشر