نقطة الغليان

فيلم نقطة ساخنة

(1) مطبخ الحياة

عدد من الأشخاص يجمعهم مكان واحد، لكنهم مختلفون، ففي عقل كل منهم تدور أفكار حول حاضره ومستقبله، كل فرد يريد أشياء ليحقق أمنياته أو ما يظن أنه سيسعده.

بين المطبخ وصالة الطعام تدور أحداث الفيلم البريطاني “نقطة الغليان” (Boiling Point) للمخرج المتميز “فيليب بيرناتيني”، وهو من إنتاج عام 2021. رغم  محدودية المكان لا تشعر بلحظة ملل؛ فالأحداث تتلاحق بسرعة وسخونة لتصل إلى نقطة الغليان، الفيلم يدخلك عوالم متعدد: العاملين في المطبخ وهم الشيف (الطباخ) ومساعديه، مديرة المطعم والعاملات في خدمة زبائنه، الزبائن المتنوعين، منهم العنصري، ومنهم التافه، ومنهم المستغل، ومنهم المحب العاشق، ومنهم من أتى ليمضي سهرة سعيدة مرة واحدة.

الفيلم مدته 95 دقيقة وهو لقطة واحدة، السيناريو والحوار في منتهى التميز والحساسية، يمكنك أن تتابع كيف تتصاعد الحوارات والأحداث بين شخصيات الفيلم لتصل إلى النقطة التي يفقد عندها المرء قدرته على السيطرة على نفسه، ويفور الغضب ويخرج مندفعا كبخار شديد السخونة شديد الأذى، ويؤدي ذلك التوتر إلى انكشاف حقيقة معدن كل شخص؛ فهناك شخصية قوية تساعد وتدعم لديها إرادة واختيار، وشخصية نرجسية تسعى للحصول على ما تريد بغض النظر عن العواقب وشخصية هشة تذوب عند نقطة الغليان.

 (2) نقطة غليان مختلفة عند كل منا

متى تصل الأمور إلى ذروتها؟ متى يصل الإنسان إلى نقطة الغليان؟

أسئلة تطرحها على نفسك بعد مشاهدة الفيلم، كل مادة لها نقطة غليان تختلف تبعًا لجزيئاتها وتفاعلها مع درجات الحرارة؛ فمثلا درجة غليان الماء تكون عند 100 درجة مئوية، ودرجة غليان زيت الزيتون 300 درجة مئوية، الأمر ذاته يحدث مع الناس، فكهناك اختلاف بينهم بالنسبة لنقطة الغليان، ويتحدد الأمر وفقا لقدرة كل فرد على تحمل الضغوط التي يتعرض لها والتي تمثل هنا الحرارة التي تصل به إلى درجة الغليان، والمثل القائل “اتق شر الحليم إذا غضب” يوضح لنا أمرا مهما  جدا، فرغم أن نقطة الغليان تأتي متأخرة عند الشخص الذى يتسم بفضيلة “الحلم”، فإنه عندما يصل إليها يكون أكثر عنفًا من غيره، ما يحدث للأفراد يحدث للجماعات والشعوب، ولذا نتعجب أحيانًا من شعب يثور ضد نظام الحكم بسبب قرار، رغم تحمله لعشرات القرارات السابقة التي كانت أكثر تأثيرا وأهمية. هنا يقال إن هذا الشعب أو هذه الجماعة وصلت إلى نقطة الغليان، وحينها يتخلى الناس عن عادة ضبط النفس وقمع الغضب في السلوك العام وتثور مشاعر: الغضب، والألم، والكراهية، والامتعاض والإحباط، وكلها خارج حدود السيطرة، وهناك مثال حي على ذلك في مظاهرات الإيرانيين الغاضبة بسبب وفاة “مهسا أميني”، كل الثورات التي شهدتها الشعوب على مدار التاريخ كانت بسبب الوصول إلى نقطة الغليان والانفجار الذي يعقب ذلك.

(3) العالم في لحظة غليان

حين تتابع نشرات الأخبار تشعر بأن العالم  في حالة غليان، وكأن هناك موقدا مشتعلا تحت قدور الدول الكبرى المنخرطة في الحرب الروسية الأوكرانية، تصريحات ملتهبة من قادة هذه الدول تشعرك بأن مصدرها غضب مكتوم كامن في الصدور ورغبة عارمة في التدمير والانتقام، والخوف من أن تصل درجة الغليان إلى حد استخدام السلاح النووي الذى هددت به روسيا، وكذلك الدول النامية وشعوبها، فهي أيضا في حالة غليان بسبب الغلاء الذي توحش، والذي يكبر كل يوم، كأنه يأكل من مال اليتامى بلا رقيب، ولا أحد يعلم متى ستتوقف الأسعار عن الارتفاع، وحكومات هذه الدول عاجزة وقليلة الحيلة لا تضع جدولا زمنيا لحل الأزمات ولا يسمع الناس منها خططا أو تاريخا للخروج من حالة العوز، لكنهم مطالبون بالصبر، ولا أحد يعرف على وجه الدقة متى ينفد الصبر ومتى يبدأ القدر في الغليان،. ويظن البعض أن نقطة الغليان بعيدة عن فقراء العالم والمقهورين من البشر الذين يولدون في الظل ويموتون تحت حرقة الشمس، ولكن ذلك غير صحيح.

(4) سبل النجاة

في مثل هذه الظروف كيف يمكن للفرد والمجتمع والدولة والعالم منع الانفجار الذي يؤدي إليه الوصول إلى نقطة الغليان، تراكم الضغوط هو ما يؤدي إلى نقطة الغليان، التغاضي عن أشياء تؤذيك ماديا أو أدبيا تجدها ظالمة وتنتقص من تقديرك لذاتك ليس بالتصرف الحكيم، التعايش مع الضغوط لا يفضي إلى الرضا بل إلى الاستياء والسخط، السكوت يزيد حدة الغليان ولابد من أن يكون هناك متنفس للغضب المكبوت بصفة دائمة بالإعلان عن الرفض.

هذا بالنسبة للفرد وينطبق على المجتمعات، ووسائل التواصل أعطت لعامة الناس وسائل للتنفيس عن غضبهم الجما عي، وبالنسبة لأنظمة الحكم عليها أن تعطي لشعوبها مساحات للتعبير الحر عن غضبها بوسائل سلمية دون تعسف أمني أو رقابة مشددة، فهذا الأمر لصالحها في المقام الأول، أما  بالنسبة للوضع الدولي فعلى الدول الكبرى أن تعيد النظر في النظام العالمي الحالي الذي يتسبب في حالة غليان وعدم رضا، فهناك دول لها ثقل إقليمي ترفض الهيمنة الغربية وتجد أن هذا يؤدى إلى حالة احتقان عالمي، وعلى الغرب المهيمن أن يتعامل بحكمة مع الأمر وأن يترك مساحات للدول التي يعتبرها مارقة من وجهة نظره. يجب علينا جميعا أفرادا وجماعات أن نتعلم كيفية النجاة من نقطة الغليان حتى لا ندمر حياتنا.

المصدر : الجزيرة مباشر