عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا في ذكرى ميلاده

جمال عبد الناصر

 

في العام 1988، نشر الكاتب الصحفي والفيلسوف المصري أنيس منصور كتابه المثير للجدل (عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا)، كان الكتاب تجميعا لمقالات كتبها أنيس منصور عن الرئيس الراحل عبد الناصر قبل أن يتوقف عن استكمالها بناء على أوامر مبارك، كان واضحا في كتاب منصور البعد الشخصي في الموقف من ناصر الذي فصله من عمله، كما هو الوضع تماما بالنسبة لكتاب هيكل (خريف الغضب) الذي كتبه بعد عامين من مقتل السادات، ونسف فيه تاريخ السادات الذي أقصاه عن المشهد السياسي والإعلامي ثم اعتقله في حملة سبتمبر/أيلول 1981.

لست معنيّا بما كتبه أنيس ضد أو مع عبد الناصر، فذاك تقييمه الشخصي، لكنني فقط استعير عنوان الكتاب لأضع تحته تقييما شخصيا أيضا لرمز لم ولن يكون ملكا لتياره الذي حمل اسمه (الناصريون) ولا ملكا لشعب هتف باسمه يوما (المصريون) لكنه كان ولا يزال ملكا للعرب جميعا بل للبشرية كلها، فقد كان أحد زعماء العالم الذين يشار إليهم بالبنان، مهما كان الاتفاق أو الاختلاف معه.

أكتب عن عبد الناصر في ذكرى ميلاده (15 يناير/كانون الثاني 1918)، وأنا الذي ترعرعت سياسيا معاديا لسياساته، التي رأيت أن أغلبها هزائم وانكسارات أمام الأعداء، وبطش وقتل واعتقال للمصريين، الآن وبعد مرور هذا الوقت على ميلاد الرجل أو حتى وفاته في 28 سبتمبر 1970، يمكننا أن ننظر إلى تجربته بعقل بارد، لنعرف غثها وسمينها، ولنستفيد نحن وغيرنا من الأجيال الجديدة بدروسها.

تقييم موضوعي

يمكننا ببساطة بعد الاطلاع على العديد من الكتابات والمذكرات التاريخية لشركائه ورجاله ومعاصريه، سواء المؤيدة أو المناهضة له، أن نراه حاكما خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهناك بالتأكيد من السياسات والقرارات الخاطئة ما يتسبب في كوارث ممتدة الآثار كما هي الحال مع قرار دخول حرب يونيو/حزيران 1967 دونما استعداد كاف، ووفقا لتقديرات خاطئة عن العدو وداعميه، التي انتهت بهزيمة مروعة لا تزال مصر والعرب عموما يعانون تبعاتها حتى اليوم، ومثل قرار المشاركة في الحرب اليمنية الذي أنهك الجيش المصري، وكان ذلك الإنهاك سببا أساسيا من أسباب هزيمة يونيو 1967، ولكن يُحسَب للرئيس عبد الناصر إعلانه تحمّل المسؤولية السياسية عن تلك الهزيمة، وإعلان تنحيه عن السلطة (الذي لم يتم) بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك الإعلان حقيقيا أم تمثيلية لاستدرار التعاطف الشعبي الذي تجسّد في مظاهرات ضخمة ضد التنحي، وبغضّ النظر أيضا عن أن جزءا كبيرا من تلك التظاهرات كانت منظمة من السلطة ذاتها (ممثلة في الاتحاد الاشتراكي)، لكن المؤكد أن جزءا منها كان عفويا أيضا، كما أن “ناصر” تحرك لإعادة هيكلة وتسليح الجيش ليستعد لمعركة جديدة، وهي التي حدثت بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول 1973، وإن كان الواجب هنا أن ننسب شرف ذلك النصر إلى صاحبه الرئيس الأسبق أنور السادات وقادته العسكريين الذين خططوا وأداروا المعارك الميدانية بكفاءة وإيمان وشجاعة عالية.

حقق “ناصر” لمصر دورا رياديا عربيا ودوليا، بدعمه لحركات التحرر الوطني، وبمشاركته في تأسيس حركة عدم الانحياز، ومنظمة الوحدة الأفريقية، ولكن الموضوعية تقتضي القول أيضا إنه تخلى عن مبدأ عدم الانحياز بعد هزيمة يونيو، وانحاز بشكل تام إلى الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي، كما أنه أسهم في تمزيق الأمة العربية إلى معسكرَي التقدميين والرجعيين بدلا من توحيدها.

السياسات الاجتماعية والاقتصادية

على مستوى الداخل المصري، لا يمكن تجاهل السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تبناها ناصر مثل الإصلاح الزراعي والتأميم، لكن مظالم كثيرة صاحبت هذه السياسات، وقد كان يمكنه بدلا من مصادرة أراضي كبار الملاك أن يُلزمهم بتأجيرها أو المشاركة في زراعتها مع الفلاحين البسطاء، لكن ما حدث حمل قدرا كبيرا من الانتقام والتشفي من ملاك الأراضي رغم أن الكثيرين منهم كانوا يمثلون برجوازية وطنية، وكان لهم إسهاماتهم العامة في بناء المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية إلخ، كما لا يمكن تجاهل بناء قاعدة صناعية قوية وخاصة مصانع الحديد والصلب والألمنيوم والسيارات والغزل والنسيج إلخ، التي جرى التخلص من أغلبها مؤخرا.

ينسب البعض إلى “ناصر” الفضل في مجانية التعليم، والحقيقة أن التعليم كان مجانيا حتى المرحلة الثانوية قبل 1952، وأن ما أضافه ناصر هو مجانية التعليم الجامعي، وهو عمل عظيم أيضا، حيث كان مقتصرا على الطبقات الغنية فقط. الأمر ذاته ينطبق على مجانية الصحة التي كانت متاحة منذ دستور 1923 حيث تم إنشاء المستشفيات الريفية عام 1928، ومكاتب الصحة الشاملة عام 1940، ثم المجمعات الصحية، لكن ناصر توسع في مد الخدمات خارج نطاق المدن والمناطق الحضرية وضاعفها إلى الريف، وأيضا في محافظات الصعيد.

ورغم ما قدّمه ناصر للقطاع العمالي من خدمات، وإشراكه في عضوية مجالس الإدارات، ورعايته لاتحاد العمال، فإنه في الحقيقة وأد التطور الطبيعي للحركة العمالية التي كانت قد بلغت مكانة جيدة قبل يوليو 1952، بل إنه بدأ عهده بإعدام خميس والبقري العاملَين في مصانع كفر الدوار بسبب دفاعهما عن حقوق زملائهما، وأصبح اتحاد العمال هو ممثل السلطة لدى العمال وليس العكس.

وأد الديمقراطية

تبقى الكارثة التي لم تقتصر على عهد ناصر بل لازمت مصر حتى اليوم، وهي قتل الديمقراطية، التي كانت -ويا للعجب- أحد المبادئ الستة لحركة يوليو/تموز 1952، فقد تم وأدها منذ وصول الضباط الصغار إلى السلطة، وشعورهم أن تلك السلطة هي حقهم فقط دون سائر المصريين، وما تبع ذلك من ملاحقة أصحاب الرأي والزج بهم في السجون والمعتقلات، وإحالتهم إلى محاكمات هزلية (محكمة الثورة- محكمة الشعب)، وإصدار أحكام بالإعدام والسجن المؤبد عليهم، وقتلهم في السجون، وفصلهم من العمل، وملاحقتهم في الداخل والخارج، وهي السياسة التي توارثها الحكم العسكري حتى يومنا هذا، فلم يكن هناك أي مبرر لوأد الديمقراطية سوى الخوف من فقدان السلطة، وقد نبّه بعض أعضاء قيادة الثورة لتلك المشكلة لكنهم حوصروا وطُردوا في النهاية من الحكم.

ليس المقصود مما سبق فتح جروح الماضي، بل استلهام الدروس والعِبر، وتدريب الأجيال الجديدة على القراءة الموضوعية للأحداث، وعدم الانسياق خلف الدعايات التي تبثها الأنظمة الحاكمة، تمجيدا لنفسها وتنزيها لقراراتها وسياساتها التي يدفع الوطن والمواطن والأجيال ثمنها.

المصدر : الجزيرة مباشر