نتنياهو وأحلام التطبيع المستحيلة!

نتنياهو

في عام 2017، وتحديدا في الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول، تظاهر حشد كبير من أهالي بلدة “عين ماهل” العربية، في منطقة الجليل بالأراضي الفلسطينية المحتلة؛ رفضًا لزيارة سيجريها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للبلدة، واحتجاجًا على قرار رئيس المجلس المحلي في “عين ماهل” تنظيم احتفال لتقديم شهادة تقدير لنتنياهو.

في ذلك الوقت كانت أحلام التطبيع لدى نتنياهو لا سقف لها، كما كان في أوج لحظات انتشائه، خاصة بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، والحديث المتصاعد عن صفقة القرن، وهرولة بعض النظم العربية إلى التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

وعند زيارته لبلدة “عين ماهل” في الثامن والعشرين من ذات الشهر، خاطب نتنياهو جموع الحاضرين متفاخرًا، وردًّا على المتظاهرين ضده، قائلا: يجب أن تعلموا أن كثيرين في غالبية الدول العربية أصبحوا أكثر تقبلًا لفكرة التعاون مع إسرائيل، ثم تساءل، كيف نعلم ذلك؟ وأجاب قائلا: ببساطة نحن ندقق في ذلك ونتابعه عبر الإنترنت.

محاولات مستمرة لاختراق الرأي العام العربي

لم تأتِ كلمات نتنياهو عن التطبيع من فراغ، فقد شهدت السنوات التالية هرولة من دول عربية للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ضمن عملية مهندسة أمريكيًّا تصاعدت وتيرتها في ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

ورغبة في التطبيع مع الدول العربية، سعت دولة الاحتلال الإسرائيلي حثيثًا على مدار سنين طوال لكسب الرأي العام العربي بشتى الوسائل، خاصة في ظل يقين إسرائيلي بانعدام القبول لدى الشعوب العربية، التي ما زالت تعتبر دولة الاحتلال كيانا غريبا لا تربطه بالمنطقة العربية أي صلة، وليس له أي امتداد ثقافي أو عرقي أو ديني.

وقد حاولت دولة الاحتلال الإسرائيلي اختراق الرأي العام العربي، بداية من استخدام الراديو، وإطلاق إذاعة صوت إسرائيل الناطقة بالعربية، التي سعت من خلالها لتعظيم قوتها، لدى الشعوب العربية، وخلق اقتناعات إيجابية لديهم اتجاهها.

واستمرت المحاولات الإسرائيلية مرورا باستخدام التلفزيون، وبث نشرات باللغة العربية، وانتهاءً باستخدام الإنترنت الذي رآه الإسرائيليون كنزا استراتيجيا، وحاولوا من خلاله اختراق العالم العربي، وتعديل اقتناعاته لتقبل إسرائيل. وقد فصل مقال للكاتبة “ميا أبشتاين” في 2013 على موقع “ذا ماركر” كيف استثمرت إسرائيل الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لجمع المعلومات، واختراق الرأي العام العربي وتهيئته للتطبيع، وألقت الضوء على دور الجيش الإسرائيلي في ذلك.

عودة نتنياهو والوجه الصريح للتطرف الإسرائيلي

بعد خسارة نتنياهو للانتخابات في 2019 ومغادرته للسلطة بعد أن استمر فيها 12 عاما متتالية رئيسًا للوزراء، فضلًا عن فترة سابقة مدة ثلاث سنوات من 1996 حتى 1999، وهو ما يعد سابقة في إسرائيل، ها هو نتنياهو يعود من جديد ليترأس الحكومة السابعة والثلاثين، التي جاءت عبر نسبة تصويت عالية بلغت 72% في انتخابات الكنيست رقم 25 في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي.

في الانتخابات التشريعية التي أعادت نتنياهو إلى سدة رئاسة الوزراء للمرة السادسة، صوت الإسرائيليون بنسب عالية للأحزاب الدينية الإسرائيلية والعنصرية، ذات التوجه الأكثر تطرفًا، والشديد العداء للعرب والمسلمين، إلى حدّ أن بعضها تنادي بطرد الفلسطينيين وقتلهم.

استراتيجية ثابتة وتكتيكات مختلفة

لقد كانت نسبة التصويت العالية، وعودة نتنياهو الوجه الصريح للتطرف الإسرائيلي ردا حاسما على أولئك الذين يرفعون شعار “مبادرة السلام العربية” كحل نهائي للقضية الفلسطينية.

تتعالى الأصوات بأن حكومة نتنياهو التي مُنحت الثقة مؤخرا هي الأكثر تطرفا، وكأن الأمر مفاجئة. وبغض النظر عن الانتقادات التي وُجهت على مستوى الداخل الإسرائيلي لحكومة نتنياهو، وهذا شأنهم، فإن الواقع يؤكد أن النخبة الإسرائيلية، وحكومات إسرائيل جميعها حكومات شديدة التطرف، تتبنى عقيدة واحدة، تنطلق من هوية يهودية صهيونية، ويعمل الجميع وفق استراتيجية ثابتة ومحددة المعالم والتوجهات، وإن اختلفت في التكتيكات.

فالسلام الذي يُدندن به على مدار عقود لا وجود له على الأرض، بل هو وسيلة استهلاك للوقت؛ لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين.

فمن وجهة نظر نتنياهو وغيره من حكام إسرائيل السلام هو وسيلة للردع والهيمنة، ولا يمكن أن يمثل عملا من أعمال الاعتراف والقبول المتبادل، فإسرائيل من وجهة نظرهم لن تأخذ مكانتها إلا عبر القوة.

والحكومات الإسرائيلية جميعها ترى في حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية تهديدا وجوديا للدولة اليهودية، وقد سعت جميعها لإبقاء قضية فلسطين عالقة في مأزق دائم.

محاولات التوسع في التطبيع

في خطابته خلال جلسة التصويت على حكومته في الكنيست، كان توسيع التطبيع أحد الأولويات الثلاث التي حددها بنيامين نتنياهو لحكومته، والتي شملت منع إيران من امتلاك السلاح النووي، وتحسين الأوضاع الداخلية الإسرائيلية.

وتنطلق رؤية نتنياهو -الذي يرى نفسه مهندس الاتفاقات الإبراهيمية، التي وقعت بوساطة أمريكية عام 2020، مع أربع دول عربية، هي: الإمارات والبحرين والسودان والمغرب- من أن إسرائيل يمكنها تحقيق السلام مع الدول العربية بعيدا عن الفلسطينيين. ومن المرجح أن تشهد الفترة القادمة جهودا حثيثة للتطبيع مع دول عربية مركزية، في محاولة لتحقيق إنجاز غير مسبوق إسرائيليا، يتفاخر به نتنياهو، ويضاف إلى إنجازاته على طريق التطبيع.

التطبيع المستحيل

في استطلاع جديد للرأي العام المصري أُجرى لمصلحة معهد واشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أظهرت النتائج أن المصريين ما زالوا يعارضون بشدة العلاقات مع إسرائيل والإسرائيليين، رغم أن مصر كانت الدولة العربية الأولى التي طبعت حكومتها مع إسرائيل، وأقامت علاقات دبلوماسية معها.

وبعيدًا عن استطلاع الرأي لمصلحة لمعهد واشنطن، فقد شاهد العالم استفتاء شعبيا حيًّا على الهواء مباشرة حول التطبيع، خلال مونديال قطر 2022، كان بمثابة فضيحة لإسرائيل، وكشف موقعها على خريطة الوعي العربي.

لقد تلقى الكيان الصهيوني -خاصة نتنياهو، مهندس الاتفاقات الإبراهيمية- من الجماهير العربية، خلال مونديال قطر صفعة استفاقة قوية بددت أوهام التطبيع مع الشعوب، وأكدت أنه أحلام مستحيلة، وأنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئا، فهو لا يعدو كونه مجرد أوهام، وخرافات، وأضغاث أحلام، بل هو أوهن من بيت العنكبوت.

 

الخلاصة

وما بين تباهي بنيامين نتنياهو في 2017 في “عين ماهل” بأن كثيرين في غالب الدول العربية أصبحوا أكثر تقبلا للتعاون مع إسرائيل، وعودته مجددا إلى رئاسة الوزراء على رأس حكومة هي الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، ومن أولوياتها توسيع التطبيع مع الدول العربية، ومع الرفض الواضح المعلن من الشعوب العربية لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، يؤكد الواقع  أن كثيرا من الماء بدأ يجري في نهر التغيير؛ محليا وإقليميا ودوليا، وأن الدول العربية التي لم تضع الشعوب في حسبانها عندما هرولت إلى التطبيع، وأنها ربما تكون الآن أكثر تحسبا لأي خطوات معلنة اتجاه الاحتلال الإسرائيلي، في ظل حكومة شديدة التطرف، وجميع تصرفاتها تمس الأمن العربي وتتعارض مع المصالح العربية.

هناك كثير من المعادلات تغيرت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالمقاومة الفلسطينية أصبحت أكثر استعدادا للمواجهة، كما أن الوضع مهيأ بقوة لاندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة، وجميع تحركات حكومات نتنياهو تقود إلى هذه النتيجة.

ختاما

تؤكد المعطيات جميعها أن التطبيع الذي يطمح إليه نتنياهو والإسرائيليون لن يكون، وأن كل حكومة إسرائيلية متطرفة هي خطوة متسارعة نحو زوال إسرائيل على يد الشعب الفلسطيني، الذي يؤكد يوما بعد يوم أن سلاح الإرادة هو أمضى سلاح في مواجهة العدو الإسرائيلي.

المصدر : الجزيرة مباشر