تركيا وعودة العلاقات مع سوريا.. هذه هي الحكاية!

أحد مناصري الرئيس السوري بشار الأسد يحمل صورة له بعد طرده خارج مؤتمر "أصدقاء سوريا" في إسطنبول (2012)

 

لا شك أن الجديد في أي شيء يسبب شيئا من الاضطراب عند أولئك الذين اعتادوا نمطا روتينيا معينا، سواء على النطاق الفكري أو العملي، حيث ركنوا إلى الراحة والدعة فترة طويلة جراء ثبات العلاقات، لذلك فإن إجراء تغييرات على أي مستوى في السياسة والعلاقات الدولية سيكون له آثار جانبية، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بالملف السوري الذي لا تزال جروحه تنزف ومعاناة الكبار والصغار كما هي يشهدها القاصي والداني، لذلك من الطبيعي أن تمثل الخطوات التركية الجديدة في علاقتها الخارجية مع النظام السوري مفاجأة لعديد من الأطراف المعنية. لذلك لنعترف بأنه من الشجاعة في الوقت الراهن تقديم مبادرة وتجربة مختلفة لتغيير ذلك الواقع السوري المؤسف المستمر منذ 12 عاما، والذي لا يبدو في الأفق القريب أي احتمال لتغييره لصالح أي طرف، ما دمنا نسير في الاتجاه ذاته ونستخدم الآليات نفسها.

يمكننا أن نرى بوضوح من المسار العام أن تركيا وحدها هي التي تقدّم هذه المبادرة، وأنه لا توجد نية لدى الجانب السوري من ناحية وروسيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى لتغيير الوضع. هذا لدرجة أن الولايات المتحدة لم تستطع تأخير أو إخفاء رفضها للمبادرة التركية، وأصدرت تصريحات أعربت فيها عن عدم ارتياحها.

قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في تقييمه للمحادثات الأولية بين تركيا وسوريا التي عُقدت في موسكو “كل ما يمكنني قوله هو أن سياستنا لم تتغير، نحن لا ندعم الدول التي تعزز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لنظام الديكتاتور الوحشي بشار الأسد. ندعو جميع الدول والأنظمة ونحثها على أن تدرس بعناية السجل الحقوقي المروع لنظام الأسد المستمر في ارتكاب الجرائم واضطهاد الشعب السوري وتهجيره على مدى السنوات الـ12 الماضية، فضلا عن استمراره في منع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين يعانون منذ سنوات”. وفي حين تعلن تلك التصريحات عن موقف الولايات المتحدة تجاه المحادثات الحالية، فإنها في الوقت ذاته تكشف نفاق السياسة السورية طوال هذه الفترة.

ورغم ما قاله برايس “السجل الحقوقي المروع للديكتاتور الوحشي وتسببه في معاناة الشعب السوري طوال 12 عاما” فإن الولايات المتحدة على مدى هذه السنوات لم تفعل شيئا، ولم تتخذ أي خطوات جادة لتغيير الوضع المأساوي في سوريا. وهذا الديكتاتور على مدى 12 عامًا في سوريا بجانب زيادة حجم سجله الإجرامي المتعلق بحقوق الإنسان، دعم المنظمات الإرهابية وأصبح شريكا معها في عملياتها تجاه الشعب السوري، مما جعل الأمر أكثر تعقيدا. وهكذا، فإن أهم أسباب استمرار هذا الوضع المخزي للإنسانية كلها وزيادة خطورته في سوريا حتى الآن، هو اكتفاء المجتمع الدولي بالجلوس في مقاعد المشاهدين الذين لا يفعلون شيئا لتغيير الوضع، بل إنهم -زيادة على ذلك- يقفون في وجه أي محاولات لتغيير الوضع وتخفيف معاناة الشعب السوري.

ما يزعج هذه الأطراف!

وحتى لا يفهمني أحد خطأ، فإن الواقع كشف أنه ليس فقط الولايات المتحدة هي التي تعمل على عرقلة مساعي الحل، لكن روسيا وإيران والنظام السوري نفسه لم يقدّموا أي رؤية للخروج من تلك الأزمة. ولِنكونَ صادقين مع أنفسنا، فإنه من البلاهة السياسية مجرد التفكير في أن استمرار الوضع الحالي -أي استمرار الأزمة الإنسانية في سوريا- يزعج هذه الأطراف. فعلى الساحة الدولية، رغم أن كثيرا من المفاهيم المتداولة، مثل الفوضى الخلاقة أو المنتجة أو المفيدة وغيرها، تصدر من مراكز التفكير الاستراتيجي الأمريكية بهدف توجيه السياسة العالمية، فإنه في ما يتعلق بالشأن السوري لم تصدر مثل تلك المفاهيم، وهذا ليس من فراغ، بل لأن استمرار ذلك الوضع المؤسف يناسب واقع الأحزاب هناك، حيث يولّد الوضع الحالي المزيد من الأرباح السياسية لجميع المنتفعين الذين يأملون الاستفادة من استمرار الوضع، ولهذا فإن اتخاذ أي خطوات فاعلة لحل تلك الأزمة وإنهاء هذا الوضع يؤرق مضاجع جميع أصحاب المصالح.

لذلك، فإنه إلى جانب الشعب السوري الذي يعاني بسبب استمرار هذا الوضع، هناك تركيا ذات حدود مع سوريا تصل إلى 900 كيلومتر، ولذلك تعاني تركيا أيضا من استمرار الوضع على هذا النحو ولا تريد استمراره، لأن زيادة المشكلات في سوريا تزيد من موجات اللاجئين الذين ينتقلون إلى تركيا، وكذلك زيادة التهديدات الإرهابية التي تزعزع الاستقرار. لذلك تحملت تركيا المسؤولية وأظهرت الشجاعة للقيام بمحاولة حل الوضع المتأزم وتقديم سياسة جديدة، من أجل الوصول إلى حل لتلك الأزمة.

ورغم كل تلك المعطيات، فإنه من المستحيل ألا نفاجأ بالأبواق والأنظمة التي تحاول تصوير هذه المبادرة على أنها استسلام وتخلٍّ وتراجع في السياسة التركية تجاه سوريا، رغم أن تركيا في هذه المشكلة المستمرة طوال 12 عاما، قد اتخذت المواقف الأخلاقية وقامت بواجبها تجاه الوضع منذ البداية، ولكن الظروف الحالية وتطورات الوضع قد أظهرت إمكانية وجود نظرة أخرى وطريقة مغايرة لرؤية الموقف من زاوية أخرى تساعد على الحل، ولكن هذا لا يعني الإفراط في التفاؤل والنتائج الإيجابية المتوقعة من هذا التقارب والمباحثات الحالية.

وخير مثال على ذلك أنه من غير المعقول أو المقبول الاعتقاد بأن تركيا بهذه المبادرة ستتعاون مع النظام السوري ضد إرهاب حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، لأنهما ليسا ضمن التنظيمات الخاضعة لسيطرة النظام السوري. وكذلك لا يمكن أن نتوقع من النظام السوري أن يخوض معركة حقيقية ضد هذه الجماعات الإرهابية أو يتعاون مع تركيا لو طلبت منه ذلك على أساس أي تقارب بين الطرفين. ولو كان لدى النظام السوري القدرة على التصدي لحزب الاتحاد الديمقراطي، لكان الوضع في سوريا مختلفا كثيرا، فالأراضي السورية في الوقت الحالي تحت احتلال الولايات المتحدة، وليس لدى النظام السوري القدرة على تنفيذ أي عملية في هذه الأراضي المحتلة. لذلك، قد لا يكون النظام السوري نفسه طرفا حقيقيا في أي تفاوض مع تركيا في مواجهتها التهديدات الإرهابية، بل إن هذا الدور سيكون من نصيب الولايات المتحدة وربما روسيا.

وحدة الأراضي السورية

ومن الناحية الأخرى، فإن تركيا هي الطرف الوحيد الذي يمكنه ضمان وحدة الأراضي السورية على المدى الطويل، ولهذا سيكون من الأنسب للنظام السوري الذي يسعى لوحدة أراضيه، أن يقلق من وجود الاحتلال الأمريكي ووجود حزب الاتحاد الديمقراطي في بلده طوال محاولاتهم الوصول إلى تركيا.

وفي موضوع المحادثات المباشرة مع النظام السوري، فإنه ليس من الضروري الآن توقّع حل على المدى القريب بشأن عودة اللاجئين، فلا يمكن لتركيا ولا لأي شخص أن يطالب اللاجئين السوريين بالثقة في الأسد بغض النظر عن نوع الضمانات التي يمكن أن يقدمها، حيث كان موقفه الوحيد تجاه المعارضة منذ 12 عاما بمثابة مذبحة مروعة لا حد لها.

كما لا يمكن لروسيا أو إيران إعطاء الثقة في الضمانات التي ستمنحها، ولا طمأنة أولئك الذين يريدون العودة، فالحقيقة أن الجهات الداعمة الأخرى والمشاركة في المجازر التي قام بها النظام السوري، هم دون شك شركاء في الجريمة. لذلك، فما معنى الضمان الذي يقدمه طرف متواطئ وشريك في المذبحة؟ وما قيمة تأكيده على أن شريكه لن يفعل الشيء نفسه مرة أخرى؟

ولهذا، فإن تركيا تبقى هي الطرف الوحيد الذي يمكنه منح الثقة في التعاون الجاد من أجل العودة، كما أن المنطقة الآمنة التي سيتم الوصول إليها وتحقيقها على الأرض من خلال الاعتراف بمناطق الحماية والسيطرة التركية وزيادتها داخل سوريا، قد تحفز السوريين على العودة طواعية. وحسب ما كتب مختار الشنقيطي على موقع الجزيرة نت، فإن توسيع المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها تركيا داخل سوريا لتشمل حلب حتى يتم حل الأزمة سيكون خيارا مفيدا للغاية. ومع الوضع في الاعتبار أن حلب هي واحدة من أكبر مدن طالبي اللجوء في تركيا، فقد تكون مسألة العودة إلى حلب هي الأهم في المفاوضات والأكثر منطقية لصالح جميع الأطراف والوصول إلى نقطة حل حقيقية.

المصدر : الجزيرة مباشر