سطوة الخوف وانكساره

صلاح جاهين

 

ولدي نصحتك لمّا صوتي اتنبح

ما تخافش من جنّي ولا من شبح

وان هب فيك عفريت قتيل اسأله

ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح

رباعية كتبها الشاعر المصري صلاح جاهين، تمثل الخوف الذي هو غريزة إنسانية في النفس البشرية، والخوف في أحيان كثيرة هو عبارة عن وهم يولَد داخلنا ثم يكبر مع تزايد حكاياتنا عنه، يتوغل داخلنا بمزيد من الأوهام التي ننميها دائما بخيالات، والشاعر هنا يُذكّرنا بأن ما نخاف منه لم يكن قويا لدرجة الموت خوفا أمامه، فهذا العفريت الذي يقهرنا ويجعلنا نرتعد أمامه ما هو إلا وهم لمن قُتل من قبل، وفي لحظة قتل لم يستطع الدفاع عن نفسه عندما تحوّل من إنسان إلى عفريت، هذا الشبح الذي خلقناه من تصوراتنا عن قوته وجبروته ما هو إلا صناعة خيالنا وعقلنا المريض الذي يوهمنا بقوة هي في الأصل غير حقيقية.

نعم يولَد الإنسان وغريزة الخوف بداخله، ولكن تلك الغريزة تنمو بالأوهام، وتزدهر في مجتمعات تتوغل الأساطير داخلها، وتعيش الخرافات في أعماقها وعلى حواف حياتها ومنذ الصبا. في مجتمعات الجهل، تزدهر حكاية أمنا الغولة التي تسكن الحواف والجبال والأماكن المظلمة، وإذا ما ساقت الظروف أقدامك يوما ما إلى هذه الأماكن وأجبرتك على العيش فيها، ستكتشف أن ما قيل لك وما عشته كان محض خيال العجز والاستكانة للوهم وعدم المغامرة أو التكاسل عن المجازفة، يسكن الإنسان للاستقرار فيخلق وهم الخوف، الخوف من أو الخوف على.

مبررات الخوف

دائما ما نسمع مبررات الخوف من الجميع، نحن نخاف من أشياء نصنعها داخلنا وتنمو مع الأيام، الخوف من المستقبل هو أكبر أوهام الخوف، فما أن تطرح فكرة جديدة حتى يلاحقك الجميع بالخوف من الجديد، الجديد الذي صنع اليوم بالأمس هو خوفنا اليوم من الغد، نخاف دائما من القوة والجبروت، هذه القوة التي قد تكون صنع عقولنا وخوفنا، يُذكّرنا الخوف من الجبروت بالكلمة الشهيرة التي كتبها وحيد حامد في فيلم الهلفوت “راجل مخوّخ من جوّه وراعب بلد بحالها”.

يجيد صاحب المصلحة من خوف الناس زيادة حجم الوهم بالخوف لدي الذين لديهم استعداد له، يسعى إلى خلق ضحايا له، قد يكون الضحايا ممن حاولوا كسر حاجز الخوف، ويحاول أن ينكل بهم ويصنع منهم عبرة لمن يتجرأ على كسر الحاجز، وظني أن الضحية ارتكبت خطأ ما وصل بها إلى هذا المصير، هذا الخطأ يستغله صاحب المصلحة من حالة الخوف ليزيد من حجمه لدي الجميع حتى لا يكون للجريء أو صاحب شجاعة التخلص من الخوف أتباع يحاولون تكرار التجارب.

دائما ما يردد صاحب المصلحة أن ازدياد السوء ناتج من التمرد على الخوف، وأن الوضع كان أفضل لو ظل بدون التمرد أو كسر حاجز الخوف، فهذا ما جناه الذين ثاروا على خوفهم وحاولوا خلق وضع جديد، تبدأ تلك الحالة من صاحب مصلحة بسيطة في قرية صغيرة حتى أقوى الدول وأكبرها اتساعا، الجميع يعزف على فكرة الخوف من التغيير لأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

يخاف الناس على أحوال معيشتهم فيرتضون العيش فيقل عيشهم، ويزداد بؤسهم، وبدلا من التطور والسعي نحو فكرة أكثر تطورا ينكمشون داخل ذواتهم ويضعون أنفسهم في مساحات أقل ثم أقل، وهكذا حتى يصلوا إلى حافة الموت أو يموتوا بالحياة، وهم في موتهم يتصورون أنهم نجوا من الموت.

يخشى الإنسان الموت بينما هو ملاقيه حال استعد له أو حال عدم قدرته على مواجهته، يوهم نفسه بأنه ينجو من الموت على يد فتوة الحارة بينما يستمتع الفتوة بموت أهلها داخل جلودهم، ويضحك ملء شدقيه فاغرا فاه بضحكات يداري بها رعبه من غضبة الحرافيش.

صوّر نجيب محفوظ هذه الحالة في سلسلته الروائية عن الحرافيش، لا يتصور الحرفوش أنه يستطيع مواجهة الفتوة مهما حاول أن يفهم أن ضعفه هو من يصنع الفتوة الذي يمتص دمه ليل نهار، ينتظر أن يموت الفتوة أو يأتي آخر ربما يكون أقل ظلما، لا يطمع الحرفوش الخائف في فتوة عادل يملك محاسبته، وتحت شعار “دع الملك للمالك” يوهم نفسه أنه صاحب عقيدة، مع أن المالك هو من بعث رسائل التغيير في كل الأزمان.

الخوف على ماذا؟

سهّير ليالي وياما لفيت وطفت

وفي ليلة راجع في الظلام قمت شفت

الخوف كأنه كلب سد الطريق

وكنت عايز أقتله بس خفت

تلك رباعية أخرى لصلاح جاهين عن الخوف، واعتقادي أن سرها في كلمة واحدة “كأنه”، إشارة إلى حالة التوهم التي تنتاب الإنسان، فالخوف داخلي نفسي، ولكنه من شدة سيطرته علينا تخيلناه شيئا ماديا، وهنا التخيل كان الكلب، والكلب قديما كان من الحيوانات التي يخاف منها الناس، ففي ليالي الظلام وكانت سمة عامة قديما، تتسع الخيالات لدى من يسير في ظلام الليل، والكلب حيوان يسير في الشوارع ليلا، وبحسب خوف الإنسان يكبر توهمه أو يصغر، وهنا تحوّل الخوف إلى كائن ضخم يشبه الكلب الكبير، حاول الشاعر أن يقتله لكن غلبه خوفه.

على ماذا يخاف الناس؟ سؤال يتردد في العقل، ما الأشياء التي أخاف عليها؟ يخاف الإنسان على أسرته، فدائما ما تكون الأسرة والأبناء هم محور محاولة الشخص لتجنب المواجهات مع الأشخاص الذين يتحكمون في مصيره، مدير العمل الذي يمارس تعسفه عليه يخشى أن يواجهه حتى لا يخصم منه أجرا تحتاجه أسرته، صاحب المنزل أو مالك منزله يرفع إيجاره ولا يواجهه حتى لا يسحبه إلى الشرطة أو يطرده من منزله فيعرّض أسرته للإهانة، يخشى من كل شيء حتى يضمن لأبنائه وضعا مستقبليا أفضل، هكذا يظن أنه يصنع لأبنائه غدا أفضل، يزداد التصاقا بذاته وداخله، وهو لا يدري أنه يشارك بضعفه وخوفه في مستقبل أكثر ظلما لهؤلاء الذين يظن أنه يحميهم.

انكسار الخوف

يستطيع الإنسان أن ينتصر على خوفه كلما زاد وعيه، وكسر حاجز الجهل والخرافات التي يكتسبها عبر مراحل حياته من محيط الجهل وموروثات التخلف، ينتصر على خوفه بالإيمان والعقيدة الصحيحة في قلبه قبل عقله.

فكرة الخوف نفسها قائمة على الوهم الإنساني، وانكساره يكون بالقدرة على التخلص من هذا الوهم، الذي يصرخ فيك بقوة، وترتعد قدماك من مواجهته بسبب وهمك بقوته ولا شيء غير ذلك.

هل هذا يعني أنه يمكننا بسهولة التخلص من الخوف؟ المؤكد لا، لأن ذلك يحتاج إلى قدرة وقوة، إلى وعي وفكر، وقبل هذا وذاك، يحتاج إلى قدرة على الفهم وإعادة التفكير في تجارب الإنسان والبشرية، فلو خاف الذين سبقونا إلى التغيير لما كنا هنا، هؤلاء جميعا كانت بدايتهم كسر حاجز الخوف.

المصدر : الجزيرة مباشر