القرضاوي وقرن من الحياة والعطاء

الشيخ يوسف القرضاوي

شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي من مواليد قرية صفط تراب بمحافظة الغربية، وقد ولد في يوم 9 سبتمبر سنة 1926م، أي أنه بدأ عامه السابع والتسعين، وتاريخه ميلاده بالهجري الثاني من ربيع الأول سنة 1345 هجرية، أي أنه بالهجري دخل في عامه المائة، أي بلغ قرنا من الزمان، بارك الله في عمره وعمله.

والحديث عن القرضاوي يصعب أن يحصر في مقال، حتى مجرد العناوين في الحديث عنه، فرجل بقامته الفقهية والفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والأدبية، يصعب حتى مجرد الحديث عن محور واحد من محاور جهوده العلمية والعملية في أحد هذه المجالات.

من القلائل الذين جمعوا بين الفكر والعمل

لكن أهم ما يبرز في شخصية القرضاوي، وما امتاز به عن أبناء جيله، هو حالة فريدة في كل جيل لا توجد إلا لدى النادر من المشايخ أو الدعاة، وهي الجمع بين العطاء العلمي والعطاء العملي من حيث المشاريع المهمة، فقليل من العلماء والدعاة يبرز علمه، وينتشر ويشتهر بين الناس به، فقد رأينا من الدعاة المعاصرين مثلا من كان مقلًّا في الكتابة، لكنه أسهب في المجال العملي، مثلما رأينا عند الدعاة المعنيين بالجانب العملي، كحسن البنا مثلا، فقد برز الجانب العملي عنده، بينما اقتصر الجانب العلمي والفكري على رسائل وكتابات محدودة، وإن كانت من حيث التأثير ذات أثر علمي بالغ.

ومن العلماء والدعاة من تفرد بالجانب الفكري، ولكنه لم يبرع في الجانب العملي، مثل: الإمام محمد عبده، والعلامة محمد رشيد رضا، وما يقال عن المصلحين يقال كذلك عن علماء الأزهر، فالشيخ محمود شلتوت استطاع أن يجدد في الأزهر عمليا، لكن كتابات الرجل قليلة، ولم تبرز كتابات شلتوت إلا بفكرة عمل على تنفيذها الدكتور محمد البهي حين كان مديرا للثقافة الإسلامية بالأزهر، فقد كلف الشابين: يوسف القرضاوي، وأحمد العسال، بجمع كتابات شلتوت، وأحاديثه الإذاعية، وأن يؤلفوا بينها، فصنعوا منها أربعة كتب مهمة، هي أهم إنجاز شلتوت العلمي، ولولا هذا الجهد لما بقيت لشلتوت آثار إلا أعماله العملية في تطوير الأزهر.

مؤلفات تبلغ مئة مجلد

من القلائل الذين جمعوا بين العطاء الفكري الهائل، والعطاء العملي الكبير: القرضاوي، فالرجل من حيث غزارة التأليف، ألف أكثر من مئتي كتاب، ويجري الآن إعداد الأعمال الكاملة للقرضاوي، وتبلغ مئة مجلد تشمل معظم مجالات الفكر الإسلامي، من تفسير وحديث، والفقه بجميع جوانبه. وهو ما لا نجده بهذا الكم والكيف عند أحد من جيله، اللهم إلا المرحوم الدكتور محمد عمارة، فقد كان متفرغا تماما للبحث والكتابة.

إنشاء مؤسسات دعوية كبرى

ولو اكتفى القرضاوي بذلك العطاء العلمي لكفاه، لكنه جمع إلى جانب هذا العطاء عطاءً آخر عمليا، فقد أسس الهيئة الخيرية الإسلامية، حين رأى التنصير في آسيا وأفريقيا، وكان شعار هذه الحملات المنظمة “ادفع دولارا تنصر مسلما”، فرفع القرضاوي شعار “ادفع دولارا تنقذ مسلما”، وسعى لتأسيس هيئة إسلامية تعمل على إنقاذ هذه الفئات المنهوشة في دينها وعقيدتها، ووجد تعاطفا وتأييدا من أثرياء الكويت والخليج، فأسس الهيئة الخيرية الإسلامية.

وعندما رأى أن وسائل الدعوة التقليدية لم تعد مؤثرة في الناس، فالمنبر، والمقال، وغيرهما، وسائل مهمة، لكنها لم تعد تكفي الناس، ولا تصل برسالة الإسلام إلى كل الشرائح، وأصبح الإنترنت هو الوسيلة الناجعة والمؤثرة في العالم العربي والإسلامي، بل والعالم الإنساني، سعى للعمل على تأسيس موقع يعمل بروح ومنهج الوسطية، وقد جاءه بعض تلامذته بالفكرة، فتبناها، وعمل عليها، وسعى لتكوينها، فقام بتأسيس موقع “إسلام أون لاين”، وكبر الموقع حتى صار بوابة إلكترونية كبرى تضم عدة مواقع داخلها تتعلق بالفتوى، والدعوة، والحركات الإسلامية، والفنون، والفكر الإسلامي والسياسي، والصحة والمرأة والشباب، والطفل، وظل الموقع سنوات طويلة يعمل، حتى تم إغلاقه في ظروف غامضة حتى الآن.

ثم ظل يفكر طويلا في حال العلماء، وكيف أنهم لا يجمعهم جامع، أو كيان مهم يجمع شتاتهم، وظل يفكر في إنشاء كيان علمائي، فكتب وثيقة مصغرة عن الفكرة، لإنشاء اتحاد للعلماء، يجمع شتاتهم، ويوحد رأيهم، ويكون منبرا ومرجعا للأمة، ويكون كيانا شعبيا لا يرتبط بالحكومات، ولا يصطدم معها، فكان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي أعلن تأسيسه رسميا في يوليو/تموز سنة 2004م في لندن، بعد أن سجله قانونيا في دبلن بأيرلندا، بعد محاولات مضنية لتسجيله في بلد عربي من دون أي جدوى على الرغم من وعود من بعض الدول. وحين اتّضح أن العالم العربي يضيق فيه الخناق على المؤسسات المستقلة، لم يجد بدا من تسجيله في دبلن.

يوسف القرضاوي لا يوسف الصديق

ظل القرضاوي طوال حياته يرفض أن يجيب عن أي سؤال يتعلق بالرؤى والأحلام، وإذا سأله أحد عن حلم أو رؤية، يقول: أنا يوسف القرضاوي، ولست يوسف الصديق!! إشارة إلى نبي الله يوسف وتأويله للأحلام، وكثيرا ما تأتيه أسئلة متعلقة بذلك، فيغلق الباب تماما.

لكن لو أنك اتصلت بالقرضاوي أو قابلته، وأخبرته بأنك رأيت رؤيا، وهو يكتب، أو يخطب، لسألك: وما عنوان الكتاب الذي رأيته، وعن أي موضوع يتحدث، وماذا تتذكر من كلامي، كل ذلك تهمه تفاصيله لعل ذلك يفتح له موضوعا يكتب فيه، أو سؤالا يجيب عنه، فيحول الأحلام والرؤى من عالم التأويل إلى عالم الفكر والواقع المنتج.

أحلام لم يحققها القرضاوي

أما أحلام القرضاوي التي حلم بها، فلم تكن من باب الرؤى البعيدة، بل الأحلام التي تتعلق بالأمة ومستقبلها، فقد حلم كثيرا بأعمال وأفكار، فحقق منها ما قدر الله له تحقيقه، ولكن ظلت هناك أحلام لم يحققها، وإن لم يتوقف سعيه لتحقيقها، ظل فترة من الزمن يحلم ويتمنى أن يؤسس مؤسسة لرعاية الموهوبين من أبناء الأمة، وبالفعل كتب مسودة المشروع، وعرضها على عدد من المسؤولين في دول الخليج، وتشجعت دولة خليجية لتبني المشروع، ولكن سرعان ما حظرته هذه الدولة، ومنعته من دخول بلادها، بل وضعت اتحاده على قوائم الإرهاب، وحاولت تحريض دول أوروبية على ذلك.

وأما الكتب التي كان يحلم بكتابتها، فأهمها أن يكتب تفسيرا على هامش المصحف، يكون مختصرا ومركزا، وقد بدأ في ذلك بالفعل، وكتب جزء “عم”، وبدأ بداية مختصرة، لكن لا أدري ما الذي جعله يترك الفكرة ويتوسع فيكتب جزء عم في مجلد كبير، وقد كان المطلوب والمرجو أن يكون المصحف كله في مجلد واحد مع المصحف.

كما كان يحلم بكتابة كتاب في السيرة النبوية، يكون على هيئة موضوعات، وليس سردا تاريخيا من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحوقه بالرفيق الأعلى، بل سيرة موضوعية أقرب إلى منهج العقاد في كتابه “عبقرية محمد”.

 

المصدر : الجزيرة مباشر