حرب البيانات

عندما أذاع “راديو دمشق” أغنية “عبد الناصر يا جمال يا مقدام” وردت اذاعة “حلب” بأغنية صباح “أكلك منين يا بطة”!

عبد الناصر

عبر التّاريخ تعرّضت الدّول العربية لاحتلالات متعددة من قبل إمبراطوريات قوية. فقد توالى على إخضاعها ونهبها المغول، والعثمانيون، والفرنسيون، والإنجليز.

فهل انتهى عصر الاحتلال؟

ربّما انتهى عصر الاحتلال بالجيوش لكنّه سيبدأ بطريقة أخرى، إنّها حرب البيانات. سيجد العرب أنفسهم خاضعين لحرب جديدة تقودها ثلة قليلة من الشّركات والحكومات، تقوم بحصد بيانات العالم وتجمعها، وتحوّل الباقي إلى مستعمرات بياناتية!

لنتخيّل معًا -والخيال هنا ليس من قبيل الأحلام المستحيلة بل مجرد رسم بياني لخطط الآخر الواضحة التي يعمل على تكريسها في الواقع منذ بداية الثّورة التّكنولوجية- لنتخيّل الوضع السّياسي في الدّول العربية بعد عشرين عامًا من الآن.

سنرى ببساطة نتائج التّطور التّكنولوجي في الصّين مثلًا أو سان فرنسيسكو أو ربّما طهران، حين يمتلك شخص ما البيانات الكاملة لكلّ سياسي ولكلّ شخصية مشهورة من الإعلاميين، والصّحفيين، والفنانين، وأصحاب رؤوس الأموال، في بلدان الشّرق الأوسط. بيانات تحوي كلّ تفصيل حياتهم؛ الأمراض التي أصابتهم؛ حياتهم الجنسية، كلّ كلمة أو طرفة قالوها، كلّ رشوة استلموها!

لنسأل بعد ذلك: هل ستبقى تلك الدّول مستقلة وحرّة؟ أم ستغدو مستعمرات بياناتية؟ ماذا سيحدث حين تصبح تلك الدّول معتمدة على قاعدة بيانات وأنظمة وبنى تحتية رقمية غير قادرة على التّحكم فيها؛ لأنّ هناك قوى تسيطر على تلك البيانات “الاقتصادية والعسكرية والشّخصية” كيف يمكن لتلك الدّول أن تكون حرّة وهي لا تستطيع السّيطرة حتّى على دخلها القومي وأرصدتها في البنوك؟

المستعمرات القديمة والحديثة

كانت المستعمرات في القرنين التّاسع عشر والعشرين توفر للمستعمرين المواد الخام وتبقي الصّناعات المتقدمة على أرض المستعمرة. كانت مصر مثلًا، تورِّد القطن الخام لبريطانيا، وتستورد الأقمشة المُصنّعة والسّيارات والمعدّات الصّناعية.

وسيحدث هذا أيضا مع مستعمرة البيانات، ففيها المواد الخام “البشرية” التي ستسيطر عليها تلك القوى. وستكون لها عواقب اقتصادية وسياسية، فالبيانات التي ترتكز عليها تطورات الذّكاء الاصطناعي في وادي السّيلكون تأتي إليه من جميع أنحاء الأرض، وستثري الشّركات من خلال تلك البيانات بينما تبقى الدول المُحتلة فقيرة.

لقد تخلّف العرب في القرنين التّاسع عشر والعشرين عن ركب الثّورة الصّناعية، وكان الثّمن قرنين من الاحتلال الغربي. ولن نسميه استعمارًا كما يفعل الغرب؛ لأنّ الاستعمار لغةً يعني “طلب الإعمار أو العمران”.

أمّا تخلّفهم الآن عن ثورة تقنية المعلومات والتّقنية الحيوية فسيكون كارثيًّا بكلّ المقاييس، وسيدفعون ثمنًا باهظًا لا يقارن باحتلال أراضيهم سابقًا ونهب خيراتها.

التّحديات الجديدة

سيجد العرب أنفسهم أمام تحديات كبيرة عليهم مواجهتها قبل أن يسبق السّيف العزل، ولكي يقفوا في وجهها عليهم أن يقتنعوا أولًا بأنّ تحدي التّقنيات الجديدة يواجه البشر جميعًا على وجه الكرة الأرضية. وهذا يتطلب منهم التّعاون مع غيرهم من البشر. فإن ظلّوا منشغلين بحروبهم الهامشية، وبقيت حكوماتهم منشغلة بمسألة إخضاع الشّعب وتجويعه فلن يجدوا أنفسهم مستقبلًا ولا حتّى في ذيل الركب بل سيكون المصير أكثر مأساوية وخطورة مما يتخيلون.

المنافسة الآن بين بعض الدّول للاستحواذ على أسلحة الذّكاء الاصطناعي والتّقنية الحيوية وتطويرها، وفي ظلّ غياب اتفاق دولي حول هذه التّقنيات لا يهم من سيفوز في السّباق؛ لأنّ الخاسر هو البشرية جمعاء.

هل ستتحد البشرية حقًّا في مواجهة هذا التّحدي وقد فشلت فيما هو أقل من ذلك بكثير وهو مواجهة وباء كوفيد 19؟ علمًا بأنّ البشر يمتلكون حاليًّا المعرفة العلمية الكافية للسيطرة على الأوبئة. لكن ما فائدة العلم والمعرفة أمام عدم امتلاكهم للحكمة السّياسية الكافية لمواجهة الخطر؟

لقد كانت معركة العالم مع “كورونا” معركة علم متقدم وسياسة فاشلة أخّرت مكافحة المرض واحتواءه، فكيف ستواجه البشرية الخطر الأكبر من تقدم وتضخم الذّكاء الاصطناعي؟

طريقة التّعامل “سياسيًّا” مع تلك التّحديات ستقرّر مصير العالم فإمّا أن يصبح جحيمًا وإمّا يتحوّل إلى جنّة.

التّطور الطّبيعي للجاسوسية

“ماذا لو كانت هذه التّقنيات موجودة في القرن الماضي؟ أيام الوحدة بين مصر وسوريا، أو فترة حكم حافظ الأسد، والملك حسين وياسر عرفات؟ ما نوع الفضائح والأسرار التي ستحارب بها القوى المتحكّمة في بيانات هؤلاء؟

كم ستدفع جارتنا إسرائيل لقاء حصولها على تلك البيانات؟ فحتى اللحظة لم يرد ذكر إسرائيل كلاعب أساسي أو مشارك في الحرب الإلكترونية القادمة، لكن القوة المادية التي ترتكز عليها تؤهلها لشراء كلّ ما تريده من معلومات تمكّنها من السّيطرة على دول الجوار وإخضاعها.

يُخطئ من يظنّ أنّ الأمس مختلف عن اليوم وأنّ حرب البيانات طفرة القرن الحادي والعشرين، بل هي مجرد تطور طبيعي لنظام الجاسوسية الذي كان سائدًا في القرن الماضي. وفي هذا السّياق نذكر مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في المغرب عام 1965 بدعوة من الملك المغربي الحسن الثّاني وشاركت فيه اثنتا عشرة دولة عربية. ذلك المؤتمر الذي وقعت ملفاته كاملة بيد الموساد الإسرائيلي والذي أكّد فيه حكّام مصر وسوريا والأردن أنّ الجيش في بلادهم لا يملك الاستعداد الكامل للحرب مع إسرائيل، وعليه اتّخذت إسرائيل قرار الحرب وحدثت نكسة حزيران 1967.

ولابدّ أن نذكر في هذا السّياق حرب بيانات من نوع مختلف تنافست فيها إذاعة حلب وإذاعة دمشق عام 1961.

فحين أعلنت إذاعة حلب “البيان رقم واحد” بانفصال سوريا عن مصر، أجابت إذاعة دمشق ببيان ينفي الانفصال بقولها: هنا دمشق إذاعة الجمهورية العربية المتحدة.. تلته أغنية “عبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنا”، لترد إذاعة حلب: “هنا حلب، إذاعة الجمهورية العربية السّورية. وتلت ذلك أغنية صباح “آكلك منين يا بطة؟”.

المصدر : الجزيرة مباشر