لماذا يكرهون القرضاوي؟!

الشيخ القرضاوي

ليست موجة الحقد والبغضاء -التي طفحت بعد إعلان وفاة العلامة القرضاوي- وليدة خبر وفاته، بل إن هذه الفئات التي أعلنت بغضه تمارس هذه العاطفة البغيضة المتجنية منذ سنوات، وقد كان في حياته رحمه الله يحدثني عن نعم الله التي أنعم بها عليه، وأنه يعذر من يحقد عليه أو يبغضه أو يحسده عليها، فإن نعمة واحدة منها تكفي لذلك، وأول هذه النعم: حب الناس.

نعمة حب الناس للقرضاوي

أثناء عملي معه، كانت تأتي إليه آلاف الرسائل في خطابات مكتوبة، وأحيانا في محاضراته العامة التي يلقيها، أو الأسئلة التي تقدم إليه ليجيب عنها في برنامج “هدي الإسلام” الذي كان يذاع عبر تلفزيون قطر ما يقرب من أربعين عاما، أو برنامج “الشريعة والحياة” على قناة الجزيرة، ومعظم هذه الرسائل كانت تبدأ بجملة واحدة هي: السلام عليكم يا مولانا، نحبك في الله، ولدينا سؤال عن كذا. وكان يقول لي: هذه النعمة لو أنني سجدت لله عز وجل على الجمر، ما وفيت الله حق شكر هذه النعمة.

أسباب الكراهية المعذورة

لكن المتأمل لأسباب كراهية هؤلاء للقرضاوي، سيجد أسبابا متعددة، منها ما يمكن ذكره في مقالنا هذا، ومنها ما لا يمكن ذكره الآن، لأنه أمر يتعلق بالنفوس البشرية واختلاف تكويناتها، وبالرقي والانحطاط الخلقي عند الشخص، ومنها ما يدخل في باب العذر، ومنها -وهو أكثرها- ما يدخل في باب المرض.

أما ما يدخل في باب العذر للشخص الكاره، فهو مرتبط بجهل بعض الناس بقدر الرجل، بناء على تشويش تم من الحاقدين والجهلة على علمه وفكره وفقهه، وهو ما نلاحظه الآن في الإعلام التابع للاستبداد، أو الإعلام المتصهين، كاتهامه بالفتنة والتحريض على الدم، فبعض الفئات من العوام لا يصله عن الشيخ سوى هذا الكلام، فمثل هؤلاء بلا شك دافعهم ليس كره القرضاوي لشخصه، بل لما تم بثه من سموم في آذانهم عنه، وهؤلاء كان القرضاوي نفسه يدعو لهم بالهداية والمغفرة.

فئة تكره عن جهل لقدر الشيخ

ومن هؤلاء فئة أخرى، هي فئة متدينة، تحب الدين، ولكن تدينها ليس عن علم واسع، ولا تعمق في الدين، فاستقر في أذهانهم أن الشيخ أو المفتي المتشدد هو القوي الدين، والمتين العلم، دلالة على أنه يحرم كذا وكذا، أما من يفتي بالتيسير المبني على العلم والفقه، فهو خفيف التدين، أو متساهل، وكانت هناك فئة من بسطاء الناس وعوامهم، يقعون فريسة هذه المقولة التي يزايد بها أهل التشدد عن جهل. أما التشدد عن علم فهو رأي لا يمكن لأحد أن يتهم نيته، ولا قصده.

عفو الشيخ عمن يسيء إليه

وكثير من هؤلاء حين يقع في أمر فيه حرج له، ويضطر للأخذ برأي قال به القرضاوي، أو عندما تتسع دائرة علم الشخص، ويدرك أن الشيخ لم ييسر عن رغبة منه في الأمر، بل عن دليل وبينة وفقه، يشعر بأنه أساء، وكنت وقت عملي معه يأتي إلى المكتب أناس كثيرون، معتذرين عن سوء ظن ظنوه به، ويطلبون منه العفو، كان آخر موقف رأيته وقت عملي معه: امرأة جزائرية فاضلة، جاءت في زيارة لابنها في قطر، وظلت تسعى لمقابلة الشيخ، وحين سألتها عن الموضوع قالت لي: حق للشيخ عندي وجب على رده، ولن أقبل إلا أن ألقاه وجها لوجه.

وبالفعل جاءت السيدة الفاضلة ومعها ابنها، ودخلت على الشيخ، وإذ بها تنهار بكاءً، وظننت أن الأمر خاص، فهممت بالخروج، فأشارت إلي بالجلوس، ثم قالت بلغة باكية متحسرة: سامحني يا شيخ، لقد خضت في دينك أنا وابني عن جهل منا، ظننا أنك تيسر لأنك ليس لديك دين، وأنك متساهل، ثم تبين لنا خطؤنا، فاعف عنا عفى الله عنك، فشاركهم الشيخ البكاء، وقال لها: يا أختي سامحتك، وقد عفوت عنك، بل إنني أعفو عن كل مسلم، وقد تصدقت بعرضي على كل مسلم يسيء إلي، وكل ما يتعلق بشخصي فأنا مسامح فيه، فإذا بالمرأة تبكي فرحة، بعد بكائها حسرة وندما، بعد عفو الشيخ عنها وعن ابنها.

أصحاب الشفاعات التي لا تقضى لهم

هناك فئة من الناس تكره القرضاوي، لأن منهم من قصده في حاجة، أو عمل، أو وساطة وشفاعة في شيء ما، فحاول ذلك، ولكنه لم يفلح، فظن صاحب الحاجة أنه لم يتحرك أو أنه لم يتحرك تحركا كافيا، فقد كان من يقصدونه لقضاء حوائجهم فوق طاقته، وكنت كثيرا ما أقول له يا مولانا: هون على نفسك، إن حاجات الناس، تحتاج منك إلى عمر نوح، ومال قارون، وصبر أيوب، وحلم الأحنف بن قيس، فلا عليك إن أديت ما عليك، والله مطلع على جهدك وتحركك، ورأيت من هؤلاء فئات متعددة، بين طلبة علم وعوام من البسطاء، يبدأ طلبهم من وساطة لمد إقامة في قطر، أو فرصة عمل بها، إلى دكاترة جامعات يقصدونه في وظيفة جامعية، ولا يوفق لها، بعد سعي دؤوب، وحرص على قضاء المصلحة.

ولا يقف سعيه هنا عند من يعرف، أو من يتوافق معه، بل أشهد الله أني رأيته يشفع ويسأل عن أناس مخالفين له تماما، وربما لا يعرفهم معرفة شخصية، أو معرفة عامة بشكل يشجع على الشفاعة، أذكر أن المرحوم عصام العريان، اتصل بي لأكلم الشيخ ليشفع للأستاذ عبد الحليم قنديل، بعد أن ضغطت سلطة مبارك على جريدة عربية كان يكتب بها وكان المسؤولون عنها من نفس توجه قنديل، وقد أخبروه بعدم النشر له عندهم، فقال لي العريان قل للشيخ: إذا وصل الأمر للأرزاق وجب عليه الشفاعة، فقال لي الشيخ: هذه الجريدة ربما لم يقبلوا تدخلي، دعنا نكلم الجريدة الأخرى، فتوجه أصحابها قريب مني، ويقبلون شفاعتي.

أسباب مرضية لكره القرضاوي

ليس بالضرورة أن كل من شفع له القرضاوي ولم تفلح شفاعته له كرهه، بل هي حالات فقط، حتى نكون أمناء في موقفنا من الناس، وهذه أسباب بشرية مقبولة في سياقها، وتنتهي بمرور الزمن عند الإنسان السوي. لكن هناك فئة تكره القرضاوي لأسباب مرضية لا علاج لها، لأنها مبنية على علل داخل النفس، وليست مرتبطة بسبب إذا زال زالت، بل هي مع القرضاوي ومع كل قرضاوي، فهي ينطبق عليها قول المثل المصري: العين لا تحب من هو أعلى منها.

عطاء القرضاوي الكبير مدعاة لكرههم

فمن هؤلاء فئة تكرهه حسدا منها لكثرة ما قام به من جهود، سواء في باب العلم أو العمل، أو العطاء المؤسسي، فكيف لرجل أن يؤلف (200) كتاب، تجمع في (105) مجلدات؟ ثم يكون عضوا في مجالس ومجامع علمية متعددة على مستوى العالم، ومؤسسا لمؤسسات كبرى يصعب على شخص وحده تأسيس واحدة منها، مثل: الهيئة الخيرية العالمية، وإسلام أون لاين، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومؤسسات أخرى. فهذه الفئة لا تغبط الغبطة التي أحلها الإسلام، من باب التنافس في فعل الخير، بل تحقد عليه وتبغضه لما أن أنعم الله عليه من نعم، وقيامه بهذه الجهود، ولو شغلوا أنفسهم بما شغل به نفسه، لفعلوا مثلما فعل.

وهناك فئة لا تحبه، لأنه استطاع أن يكون فقيها ميسرا، سواء في الفتوى، أو تيسير العلم للفهم والتطبيق، وهذه منحة وفضل الله يؤتيه من يشاء، ولم تكن فتواه عن بيع لدينه، ولا عن هوى، لكن من تساهل في الفتوى، أو الدين عن هوى، أو إرضاء للسلطة، أو طمعا في المال، ينظر إلى من حافظ على دينه وعلمه، نظرة البغض، لأنه دائما يذكره بخسرانه، ويحنق عليه لأنه ربح الدنيا، ويرجو من الله ربح الآخرة، وربح احترام الناس، بينما يُنظَر إليه هو على أنه عالم سلطة، أو مفتي ملاكي، أو ما يطلق عليه: شيخ تايواني، أي: غير أصلي.

موقفه الثابت من الظلم والظلمة وأتباعهم

ومن الناس من يكره القرضاوي، لكره خطه ومنهجه، في موقفه من الطغاة والاستبداد، سواء كان عربيا أو غربيا، ولبغضه للظلم والظلمة، فتجد أعوانهم لا يحبون القرضاوي وأمثاله، فهو ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبالتأكيد من يطبع، أو من يؤيد الأنظمة التي تطبع، ممن أطلق عليهم الصهاينة العرب، يقينا سيكون مبغضا له، فلن يجتمع في قلب شخص: حب القرضاوي وحب الصهاينة، أو القرضاوي والظلمة، فليس مستغربا ذلك الموقف الكاره، بل الحاقد والمتحامل منهم.

ذلك أن موقف القرضاوي يذكرهم بخذلانهم للأمة، وتواطئهم مع الظلمة، ولأنه خصم عنيد لأسيادهم، فقد استطاع أن ينجو من أخطر ضغطين يضغط بهما على  العالم: ضغط السلطة، وضغط الجماهير، فقليل من يوفقه الله لذلك، فكثيرون يقعون تحت أحد الضغطين، وكلاهما خسارة للعالم وخصم من رصيده وموقفه، وهذه الفئة هي أكثر الناس كرها للقرضاوي، لأنه بثبات موقفه وشموخه، يضعهم دائما في مرمى إهانة الناس لهم، والمقارنة بين المواقف، فثباته في مواقفه ليس وليد لحظة وانتهت، فقد عاش الرجل ما يقارب قرنا ميلاديا، وبعض الناس ربما غير موقفه في مرحلة من المراحل، وهو ما رأيناه من البعض، لكنه عاش ومات وموقفه في شبابه موافق تماما لموقفه في شيخوخته، وحتى مماته، وهذا مدعاة للبغض عند ضعفاء النفوس، وأصحاب العزائم الخائرة، ومن باعوا أنفسهم وعلمهم وأقلامهم للسلطة الظالمة.

أما فئة الحكام الظلمة، وكل ظالم، فهؤلاء كرههم له مفهوم، وليس مستغربا، بل إن حبهم له هو موضع الاستهجان إن وجد، ومنهم من أبدوا حيادهم معه، لكنهم أغروا سفهاءهم وأذرعهم الإعلامية بالقيام بذلك، وهم كثر، ومعروفون ومواقفهم مفضوحة معلنة، فهؤلاء تمنوا أن ينضم القرضاوي إلى حظيرتهم، ويكون أحد أتباعهم، أو على الأقل أن يصمت عنهم، أو يخفف كلامه عنهم.

افتراءات لن تدوم أمام الحقائق

خلاصة القول: أن أسباب من كرهوا القرضاوي ونفثوا حقدهم ضده حيا وميتا، أسباب مكشوفة، وتنكشف دائما بمرور الزمن، وبوضوح الرؤية للناس، وستظل موجودة مع القرضاوي وغيره، فهذه سنة الحياة، لكن يظل دائما الحق هو الأبقى، فكم من عالم كبير ظلم حيا وميتا، ثم أنصفته الحقائق، لأن ظلمه ارتبط بوجود ظالمين لهم سطوة في زمن ما، فلما انتهت عاد الحق إلى نصابه. والقرضاوي نال حقه حيا وسينال حقه ميتا إن شاء الله، فيكفي أن يوضع كل من هاجموه أمام واحد فقط ممن كتب عنه من الرموز الكبيرة الذين لا يتسع مقال كامل لذكر أسمائهم فقط دون ذكر ما قالوه، بدءا من شيوخ الأزهر مرورا بمناضلين ورموز وقامات، لو وضعت صفحة مما كتبوه أمام كل هذه الافتراءات لرجحت بها وبما افتروا عليه جميعا، وهذا هو الأبقى والأنفع إن شاء الله.

المصدر : الجزيرة مباشر