أهداف سياسية وراء بناء سد النهضة

الأعلام الإثيوبية على مبنى بالقرب من محطة ضخمة للطاقة الكهرومائية على نهر النيل الذي يجاور السودان ومصر

 

بدأت فكرة سد النهضة بدراسة فنية اقترحها مكتب الاستصلاح الأمريكي للحوكمة الإثيوبية في سنة 1964 لبناء سد مائي على مجرى النيل الأزرق في موقع سد النهضة بالقرب من الحدود السودانية الإثيوبية باسم “سد بوردر” أو السد الحدودي، بسعة 11.1 مليار متر مكعب، وظل السد فكرة على الورق حتى أعلن رئيس الحكومة الإثيوبية الراحل، ميليس زيناوي، في أبريل سنة 2011، عن بناء سد “إكس” بدلًا من السد الحدودي، مع زيادة سعة التخزين إلى 14 مليار متر مكعب.

ثم أعلن زيناوي في السنة نفسها عن تغيير مسمى السد للمرة الثانية إلى “سد الألفية الإثيوبي العظيم” وزيادة سعة الخزان إلى 17 مليار متر مكعب، وفي سنة 2012 أعلن للمرة الثالثة عن تغيير الاسم إلى “سد النهضة الإثيوبي العظيم” وزيادة سعة الخزان للمرة الرابعة إلى 62 مليارًا، ثم أعلن في السنة نفسها عن زيادة حجم خزان السد إلى 74 مليار متر مكعب بزيادة ارتفاع السد إلى 145 مترًا.

وادعت الحكومة الإثيوبية أن سد النهضة سيوفر الكهرباء للشعب الإثيوبي الذي يعيش في الظلام، وأنه سيكون مفتاح التنمية وعلاجًا للفقر من خلال تصدير الكهرباء للدول المجاورة وأوربا عبر أراضي مصر والسودان، بل ادعت أن السد له فوائد إيجابية على مصر والسودان وليس له أي ضرر على الحياة فيهما، رغم أنها لم تعلن عن أي دراسة للتقييم البيئي والاجتماعي.

وفي مقال سابق فندنا الجدوى الاقتصادية للسد، وكشفنا مبالغة الحكومة في حجم السد وفي تقدير قدرة السد الكهربائية وأهدافه التنموية من خلال دراسات خبراء إثيوبيين شككوا في مزاعم الحكومة، وفي هذا المقال نكشف عن الأهداف الحقيقية لبناء سد النهضة، من خلال تصريحات المسؤولين الإثيوبيين أنفسهم، والخبراء المتخصصين، دون الأخذ بأدلة وتحليلات الخبراء المصريين، لنفوّت الفرصة على من يدعي أن آراءهم نابعة عن الانحياز الطبيعي لقضيتهم الوجودية في نهر النيل.

السيطرة والتحكم في مصر

عند الإعلان عن بناء السد في أبريل سنة 2011، خالف زيناوي المعاهدات والاتفاقيات الدولية المنظمة للحقوق المائية في نهر النيل، وكذلك القوانين الدولية المنظمة لاستخدامات الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية، لأنه كان إعلانًا أحادي الجانب، ودون إخطار مسبق أو تشاور مع دولتي المصب مصر والسودان، ما يكشف عن نية مسبقة للانفراد بالتصرف والتحكم في مجرى النيل الأزرق دون تنسيق مع مصر والسودان.

كما أن اقتراح بناء السد في آخر حدود إثيوبيا وبالقرب من الحدود السودانية يعني نية التحكم الكامل في المياه كلها النابعة من حوض النيل الأزرق، الذي يمد مصر بـ85% من مياه النيل، على النحو الذي وقع مع كينيا والصومال، وقد قطعت المياه عن كل من البلدين بعد بنائها السدود على نهر «أومو» المشترك مع كينيا، رغم وعودها لهم بعدم المساس بحصصهم المائية.

بعد إعلان إثيوبيا منفردة عن انتهاء الملء الأول لسد النهضة، كتب ديفيد هيرست، الكاتب البريطاني المخضرم، في 4 أغسطس سنة 2020 مقالًا في موقع ميدل إيست آي تحت عنوان، كيف أصبح سد النهضة الإثيوبي نكبة مصر؟ قال فيه إن سد النهضة بالنسبة لإثيوبيا هو تحقيق حلم يعود إلى عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي في الستينيات، ولطالما كانت السيطرة على نهر النيل حلم لإثيوبيا، وفي سنة 1874 كانت هناك محاولة إثيوبية للسيطرة على النيل الأزرق، ودخلت مصر في حرب مع إثيوبيا لإفشال المحاولة، ولذا كان على رأس قائمة قضايا الأمن القومي لمصر في العصر الحديث.

وفي 15 يوليو 2020، أذاع التلفزيون الإثيوبي الوطني خبر بداية الملء الأول لسد النهضة، ثم تراجعت الحكومة الإثيوبية واعتذرت عن إذاعة الخبر بعد ساعات معدودة وأنكرت بدأ الملء، وزعم وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، أن الصور التي نشرتها رويترز تظهر المياه في بحيرة السد من “الأمطار الغزيرة” فقط وليست بسبب بدء الملء، ولكن بعد أن أكد السودان خروج العديد من محطات مياه الشرب عن الخدمة بسبب التناقص المفاجئ في مياه النهر، اضطرت إثيوبيا إلى إطلاق المياه وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي عن انتهاء الملء.

يقول هيرست، بشعارات الانتصار وبالتخلي عن كل أخلاق الدبلوماسية وبشكل لا يصدق قال وزير الخارجية، جيدو أندارغاتشو، “مبروك لقد كان نهر النيل وأصبح النهر بحيرة! لن يتدفق بعد الآن إلى النهر، سيكون لدى إثيوبيا كل التنمية التي تريدها منه، في الواقع، النيل لنا!”، وأضاف “إن ما قمنا به من بناء سد النهضة هو بمثابة تغيير الرؤية والأهداف وأحدثنا تغييرًا في التاريخ والجغرافية السياسية للمنطقة”.

وفي 31 مايو 2021، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، عن أن بلاده ستبني أكثر من 100 سد، وكشف عن الهدف من بناء السدود المائة، وهو استخدامها في قطع المياه عن دول بعينها بقوله، إن بناء السدود هو “السبيل الوحيد لمقاومة أي قوى معارضة لإثيوبيا”، وذلك وفق ما نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية. ما يؤكد بما لا يدع مجالًا للبس أن أحد أهداف إثيوبيا من بناء سد النهضة على النيل الأزرق الذي يرفد النيل بـ85% من المياه هو السيطرة والتحكم في دولتي المصب مصر والسودان.

بيع المياه لمصر

في اعتراف إثيوبي صريح بالتخطيط لبيع المياه لمصر، وبعد إعلان إثيوبيا في فبراير سنة 2021 عن التعبئة الثانية لسد النهضة دون التقيد بالمفاوضات، أكد المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي أحقية بلاده في بيع المياه الفائضة عن حاجتها، وقال في برنامج المسائية على شاشة الجزيرة مباشر في 3 أبريل سنة 2021، أنه لا توجد مشكلة على الإطلاق في بيع حصة بلاده من مياه السد.

وفي رده على سؤال مباشر عن بيع المياه بعد اكتمال السد، قال مفتي “ما الذي يمنع؟ كل شيء وارد، الفائض من المياه، والكهرباء أيضًا”، ولتأكيد المعلومة، سأل مقدِّم برنامج المسائية، أحمد طه، المسؤول الإثيوبي: لقد فهمت منك أنكم ستبيعون المياه والكهرباء، فهل هذا صحيح؟ فأجاب مفتي “بالتأكيد، ما المانع إذا كانت هناك زيادة عن حاجتنا؟”.

وقال مفتي إن الدولة التي تملك الحصة الكبرى من المياه -والتي تنبع منها المياه- لديها الحق في توزيع المياه، واستدرك قائلًا، “لا نود أن ننتقص من حصة المصريين والسودانيين، نتحدث عن توزيع عادل”، وفي سؤال مباشر بخصوص تقارير تشير إلى أن أديس أبابا ستبيع مياه السد إلى تل أبيب، امتنع مفتي عن التعليق قائلًا “لا أود التعليق على هذه الجزئية”، ومن نافلة القول إن مفتي طلب الكلمة مرة أخرى في نهاية المداخلة وتراجع عن تصريحه، ولكن بعد أن أفصح بوضوح عما تخطط له الحكومة الإثيوبية.

توصيل المياه لإسرائيل

توصيل مياه النيل لإسرائيل ليس هدفًا جديدًا ولا معلومة سرية، ففي عام 1974 طرح اليشع كالي، رئيس هيئة تخطيط موارد المياه في إسرائيل، تخطيطًا لمشروع يقضي بنقل مياه نهر النيل إلى إسرائيل، ونشر المشروع تحت عنوان “مياه السلام”، وهو يتلخص في توسيع ترعة الإسماعيلية لزيادة تدفق المياه فيها، وتنقل هذه المياه عن طريق أنفاق تمر تحت قناة السويس، وفي مشروع آخر، قدم الخبير الإسرائيلي شاؤول أولوزوروف، النائب السابق لمدير هيئة المياه الإسرائيلية، مشروعًا للسادات خلال مباحثات كامب ديفيد، يهدف إلى نقل مياه النيل إلى إسرائيل من خلال شق 6 قنوات تحت مياه قناة السويس، وبإمكان هذا المشروع نقل 1 مليار متر مكعب، لري صحراء النقب.

وفي حيفا عام 1979، قدم السادات اقترحًا مشابهًا، وقالت مجلة أكتوبر المصرية في حينه: إن الرئيس السادات التفت إلى المختصين وطلب منهم إجراء دراسة عملية كاملة، لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة القدس لتكون في متناول المترددين على المسجد الأقصى وكنسية القيامة وحائط البراق، وهو ما سعى السادات إلى تنفيذه في سنة 1979 بحفر ترعة السلام لهذا الغرض، لكن يبدو أن المشروع لم يمت بموته.

ففي منتصف سنة 2016، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إثيوبيا وقال في كلمة مقتضبة ألقاها في مجلس نواب الشعب الإثيوبي إن “إسرائيل ستدعم أديس أبابا، لتمكن إثيوبيا من الاستفادة من مواردها المائية وستدعمها بكافة أنواع التكنولوجيا الحديثة وفق استراتيجية إسرائيل”، ما يذكر بأطماع إسرائيل القديمة في مياه النيل.

الاستزراع على حساب حصة مصر المائية

في مرحلة مبكرة من الإعلان عن السد في 2011، أبدت منظمة الأنهار الدولية ريبتها من توسيع الحكومة الإثيوبية عمليات تأجير الأراضي المخصصة للزراعة حول السد والسدود الأخرى المقامة على النيل الأزرق، بالإضافة إلى سرية المعلومات التي تخفيها بشأن مخاطر السد على دولتي المصب، مصر والسودان.

ذلك أن خزان سد النهضة سوف يغطي مساحة 1874 كيلومترًا مربعًا، ويمتد طوله إلى مسافة 264 كيلومترًا، وهي مساحة كبيرة تزيد من فرص إنشاء مشاريع زراعية وصناعية حول بحيرة السد الوليدة وتستمد منها المياه اللازمة المقتطعة من الحصة المائية لمصر والسودان ما يثير الشكوك أيضًا، أن إثيوبيا دعت في الشهور الأخيرة وبالتزامن مع الإعلان عن البدء في ملء وتشغيل سد النهضة إلى استثمار دولي في القطاع الزراعي على أكثر من 3 ملايين هكتار، وهي مساحة ضخمة تعادل 80% من الرقعة الزراعية في مصر.

وكذلك روجت إلى زراعة قصب السكر وخاصة في حوض النيل الأزرق، ودعت المستثمرين لإنشاء 10 مصانع لإنتاج السكر، وهو ما يزيد عن عدد مصانع قصب السكر في مصر بمصنعين، وأطلقت حزمة من الحوافز لجذب الاستثمارات الأجنبية للمشاريع الزراعية مثل الإعفاء من الضرائب والرسوم الجمركية على الصادرات والواردات لمدة تصل إلى 9 سنوات، فهذه المشاريع سوف تستهلك مليارات الأمتار المكعبة من المياه على حساب حصتي مصر والسودان المائية.

محاولة إثيوبيا بناء سد النهضة والتحكم في مسار النيل الأزرق بهدف السيطرة والتحكم في الأمن القومي والقرار السياسي المصري، أو بيع المياه لمصر، أو توصيل المياه لإسرائيل، أو استخدام جزء من حصة مصر المائية في الزراعة حول بحيرة السد، كل ذلك من شأنه أن يهدد السلم والأمن في إقليم حوض النيل، وينثر بذور الحرب على المياه لاستعادة الحقوق، وقد تنشب تلك الحرب بمجرد نفاد مخزون المياه من بحيرة السد العالي.

المصدر : الجزيرة مباشر