شيخ الحرية والكرامة.. وإن رغمت أنوف

بعد جهاد بالقلم والكلمة ثمانية عقود على الأقل، ترجل فقيه الأمة ورائد مدرسة التجديد والاجتهاد، فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، رحمه الله وجعل الجنة مثواه.

للشيخ كثير من الألقاب والصفات التي تعجز عن الإلمام بشخصيته الفريدة، لكن ما يعنينا في هذا المقال هو مواقف الراحل الكبير ضد الاستبداد، التي توّجها بدعمه المباشر لثورات الربيع العربي فكان بحق شيخها ومفتيها، ولا يقلل من ذلك مهاجمة أبواق الثورات المضادة له، فهذا ليس مستغرَبًا منهم.

منذ صعد الشيخ المنابر في مطلع شبابه في أربعينيات القرن الماضي، فإن خطبه ركزت بشكل مباشر على مواجهة الظلم والاستبداد، ودفع في سبيل ذلك الكثير من أيام عمره في السجن بين الخمسينيات والستينيات، كما اضطر إلى مغادرة وطنه الأم بسبب تلك الملاحقات التي لم تقتصر عليه بل طالت في أواخر عمره ابنته علا وزوجها، فقط لانتسابهما إليه.

وإلى جانب خطبه الكثيرة في مصر وغيرها من الأقطار، فقد ألّف الشيخ عشرات الكتب وأصدر مئات الفتاوى ضد الظلم والاستبداد، لكن الموقف العملي الأكثر بروزًا في هذا الإطار هو موقفه الداعم لثورات الربيع العربي منذ شرارتها الأولى في تونس، وحتى آخر نفس في حياته، فلم يكن الشيخ مجرد داعم، لكنه كان الشيخ المؤسس لفقه الحرية ومواجهة الاستبداد والخروج على الحكام المستبدين عبر حراك سلمي جسدته ثورات الربيع، وهو ما بدا اجتهادًا جديدًا داخل الفقه السني الذي مال في غالبه إلى الصبر على الحكام، وتحمّل أذاهم، وعدم الخروج عليهم خشية الفتنة، وإراقة الدماء المعصومة.

جرأة فقهية مؤصلة

امتلك الشيخ -رحمه الله- جرأة كبرى حين أطلق فتواه بالتخلص من القذافي بأي وسيلة بعد أن قتل المئات من شعبه، وكان لا يزال مستمرًّا في قتل المزيد، كما أفتى بضرورة مواجهة نظام بشار الأسد بكل الوسائل الممكنة بعد أن أعمل القتل والتدمير ضد ثورة سلمية طالبت بالحرية والكرامة، ولم تلجأ إلى العنف عند انطلاقها ولعدة شهور حتى تعرضت للقصف والقنص، وحصد الأرواح بكل القوة الغاشمة.

في ثورتنا المصرية، كان للشيخ دوره المشهود، بدءًا من محاضراته وخطبه وكتبه التي شكلت وعي ملايين المصريين، وحفزتهم على مقاومة الظلم والاستبداد، وطلب الحرية والكرامة، وصولًا إلى دعمه الكبير للثورة منذ يومها الأول، لكن أبرز مواقفه الداعمة للثورة، والتي لا تزال محفورة في وعي أبنائها، هو موقفه ليلة موقعة الجمل، ثم إلقاؤه خطبة النصر في ميدان التحرير.

أما الموقف الأول، فقد كان حاسمًا في حشد الجماهير إلى ميدان التحرير إثر نداء وجّهه عبر قناة الجزيرة بعد أن بلغته أنباء الهجوم على المعتصمين ومحاولة الفتك بهم، وكانوا قلة في تلك اللحظة، لكن هذه القلة التي صمدت في مواجهة العدوان وجدت الحشود تملأ الميدان خلال وقت قصير عقب نداء الشيخ، فكان الحسم في النهاية لصالح الثورة والثوار، وكانت نتيجة تلك المعركة هي الإعلان الحقيقي المبكر لانتصار الثورة في تلك الجولة حيث غيرت القيادة العسكرية موقفها بعدها لتقبل بفكرة ذهاب مبارك حفاظًا على باقي النظام.

هيكل والقرضاوي والخميني

أما الموقف الثاني للشيخ، فهو إمامته لصلاة جمعة النصر بدعوة من شباب الثورة، حيث كان الميدان الأبهى صورة، والأكثر حشدًا على الإطلاق.

كان ذلك الحضور الضخم لسماع خطبة الشيخ في جانب منه تكريمًا له على مجمل مواقفه الداعمة للحرية والكرامة، ومواجهته للظلم والاستبداد على مدار ثمانية عقود، لكن ذلك المشهد لم يُعجب من في قلوبهم مرض، ومن لم يشاركوا في الثورة والمتضررين منها بطبيعة الحال.

بعيدًا عن رجال عهد مبارك، فإن تصريحات الكاتب محمد حسنين هيكل التي شبّه فيها بخبث خطبة القرضاوي في الميدان بخطبة الخميني أمام ثوار إيران عام 1979، مدعيًا أن تلك الخطبة صبغت الثورة المصرية بصبغة دينية، كانت (أي تلك التصريحات) مغموسة بالحقد أو على الأقل بالغيرة من القرضاوي الذي اجتمعت له تلك الحشود، ويمكننا القول أيضًا إن ذلك التشبيه الخبيث كان استنفارًا للمؤسسة العسكرية وربما لقوى دولية كارهة بطبيعتها للإسلاميين.

لقد كتبت مقالًا في موقع اليوم السابع في حينه منتقدًا موقف هيكل، ومذكرًا إياه أنه في الوقت الذي كلف فيه الشيخ القرضاوي نفسه عناء السفر من الدوحة إلى القاهرة تلبية لطلب شباب الثورة، فإنه (أي هيكل) لم يكلف نفسه بزيارة الميدان ولو لخمس دقائق، وهو ليس بعيدًا عن مكتبه، رغم دعوات شباب الثورة له أيضًا، ورغم أن أنصاره ومريديه كانوا ينتظرونه فجر كل يوم في الميدان حيث إنه -كما أخبرني صديق له- معتاد على التريض مشيًا كل صباح، وأنه حتمًا سيأتي إلى الميدان (ذات تريض!)، وقد استند شيخنا الراحل إلى هذا المقال في مذكراته، مشيدًا بأنني كفيته الكلام عن هيكل.

ضد الاستبداد الدولي

لم يكن الشيخ -رحمه الله- قاصرًا جهده وعلمه على مواجهة الظلم والاستبداد المحلي في الدول الإسلامية، لكنه واجه أيضا الظلم والاستبداد الدولي، إذ وقف بصلابة ضد الغزو الروسي لأفغانستان، ومن بعده الغزو الأمريكي، حتى تحررت من الاحتلالين، ووقف بصلابة ضد الغزو الأمريكي للعراق رغم رفضه لاستبداد صدام، كما وقف بقوة حتى آخر يوم في حياته ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، داعمًا بقوة وبعلم خيار المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني، ومنددًا بحصار دول الجوار العربي لأشقائهم الفلسطينيين، ودعم الكثير من الأقليات الإسلامية في تحركها لنيل حريتها واستقلالها، كما هو الحال في كشمير وتركستان الشرقية وغيرهما.

كشف الشيخ أيضًا المعايير المزدوجة للغرب تجاه مطالب الشعوب الإسلامية في الحرية والكرامة، ولذا صنّفه العديد من الأنظمة الغربية عدوًّا لها، ورفضت منحه تأشيرات دخول إلى أراضيها، ولا تفهم تلك الأنظمة أنه لم يكن بحاجة للانتقال إليها بجسده بعد أن سبقه إليها علمه وكتبه وفتاواه.

حقًّا لقد كان فقيدنا شيخ الحرية والكرامة، وإن رغمت أنوف، ولقد كانت جنازته وعزاؤه وصلوات الغائب عليه في العديد من الدول استفتاءً جديدًا عليه، وتأكيدًا للوفاء والتقدير له ولجهوده.

رحم الله الشيخ الإمام، وجعل الجنة مثواه.

المصدر : الجزيرة مباشر