كيف تعاملت قطر مع أزمة دارفور؟

 

الزيارة التي يقوم بها هذه الأيام حاكم إقليم دارفور أركو مناوي وعدد من ولاة ولايات غرب السودان إلى قطر، بهدف التحضير لمؤتمر المانحين، تعيد إلى الأذهان اتفاقية الدوحة لسلام دارفور في يوليو/تموز 2011، التي خلقت أرضية خصبة للسلام، وخاطبت جذور الأزمة، وتعاملت مع مشكلة الحرب بواقعية، حتى بدأ الناس هنالك بالفعل يشعرون بأمل وطمأنينة يفتقدونها اليوم، مع اتفاقية جوبا للسلام، التي حبست كل متطلباتها في بروتوكول السُلطة.

مأزق النخبة السياسية والعسكرية

واحدة من مشاكل اتفاقية جوبا للسلام التي تم التوقيع عليها في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أنها خلقت فجوة بين دارفور وأبناء المناطق السودانية الأخرى، الذين باتوا يشعرون بأن الحركات المُسلحة استأثرت بالسُلطة والثروة على حساب أقاليم أخرى، وتم تجميد بقية المسارات، لدرجة انتشار هاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان: أنا متضرر من اتفاقية سلام جوبا وهو مأزق أدخلتنا فيه النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة، التي تعقِد الاتفاقيات، لتربح الجولة فقط، ثم تعّبُر فوقها بخفة لا متناهية، وتتحلل بعد ذلك من تبعاتها.

بخلاف السُلطة والثروة عالجت اتفاقية الدوحة لسلام دارفور سبع قضايا أساسية، منها حقوق الإنسان والتعويضات وعودة النازحين واللاجئين، العدالة والمصالحات، إلى جانب الحوار والتشاور الداخلي. والأهم من ذلك أنها استضافت في أبريل/ نيسان 2013 مؤتمر المانحين لإعادة الإعمار والتنمية في دارفور بمشاركة دولية واسعة، ونجح المؤتمر في جمع تمويل لمشروعات التنمية في الإقليم تجاوز 3 مليارات دولار، تغطي فترة أربع سنوات من استراتيجية تنمية دارفور التي تمتد على مدى ستة أعوام، وتعهدت دولة قطر بمبلغ 500 مليون دولار أمريكي كمنح ومساهمات لإعادة الإعمار، وتعهدت الجمعيات والمؤسسات الخيرية القطرية بتقديم 141 مليون دولار لدعم التنمية وإعادة الإعمار في إقليم دارفور، فضلاً على مشاريع الإنعاش المبكر بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
هذا المؤتمر المهم افتقرت له وأهملته الاتفاقيات الحالية السارية، التي تعاني غياب المانحين، وعدم توفر التمويل اللازم، مما تسبب في تأخير تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، وتعطيل ملف العدالة الانتقالية والتعويضات، وكذلك إعمار ما دمرته الحرب، وكان لزاما على حكومة السودان التي تحتاج من يغيثها، تسديد فواتير هذا الاتفاق المأزوم، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة.

الفوضى العارمة

الإشكالية العصية التي تطرحها قضية دارفور أنها متجددة، وأشبه بالبراكين، تهدأ نسبياً، لكنها قابلة للانفجار في أي وقتٍ، وقد أخذت من المورث الشعبي بعض تفاسيرها، كالتاريخ الدامي لما يسمى بـ(أمكوكية)، وهى الفوضى العارمة التي ينال فيها الناس من دماء وأعراض وممتلكات بعض، وأصلها “غُصُب كي”، حيث تندلع كل مائة عام.
ثمة من يتحدث عن أمكوكية ثانية أو ثالثة، بعد أن اندلعت خلال الأعوام (1874 – 1916)، وانطلقت الشرارة الثانية في العام 2003، إلى جانب الصراع حول الموارد والسُلطة أيضاً، وما أملاه الواقع الجيوسياسي، أي تداخل الجغرافيا مع السياسية، ولذلك تبدو دارفور أحياناً في تعاطيها مع الجوار، أقرب إلى الجسد المتداعي.

المجتمع الدولي لا يريد أن تهدأ النيران في دارفور لأسباب غامضة، وربما يريد حرمان الحكومات السودانية وأهل دارفور من الاستفادة من هذه المنطقة، التي تسبح في نهر من الموارد العظيمة، لم يتم استغلالها بعد. ومن واقع تطورات مشكلة دارفور منذ بدايتها، يتضح أن لذلك الانفجار جذور، وبمرور الوقت ظهرت النخبة الدارفورية تتأبط خطاب المظلومية، فقامت بتجييش الجيوش والدخول في حروب مع المركز، بدوافع مختلفة، تغذت من خلفية أن دارفور لم تندمج نهائياً في السودان إلا بعد هزيمة آخر سلاطينها، علي دينار في العام 1916، وبالتالي فإن تاريخها الطويل كمنطقة مستقلة، جعلها في حالة تنازع مستمر.
تشير كثير من الدراسات والكتابات إلى ثلاثة عوامل رئيسية في أزمة دارفور، منها النزاع المرتبط بالموارد، وخصائص النخبة التي تحرك الحرب، وطموحاتها وخلفياتها السياسية، وتداخلات الجوار، وهى عوامل تتفاعل في سياق متغيرات دولية، مثل الهيمنة الأمريكية على العالم، إلى جانب وقوع دارفور في الحزام الفرانكفوني، وصلاً بظهور التنين الصيني وانتشاره اقتصادياً في غرب أفريقيا مؤخراً، إلى جانب اكتشاف موارد مهمة في دارفور مثل: الذهب واليورانيم، وأخيراً التوغل الروسي في المنطقة ونشاط مجموعة فاغنر شبه العسكرية على حساب النفوذ الفرنسي في مالي وتشاد.

المخلب الإسرائيلي

في عددها الصادر في 4 فبراير/ تشرين الثاني 2007 تناولت صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) موضوع دارفور، وقالت إن النفط يشكل العامل الخفي وراء تصاعد العنف في إقليم دارفور، وإنه بين الأجندة غير المعلنة للدول الغربية للسيطرة على ثروات الإقليم وربطه بنفط غرب أفريقيا، لكن ما يدور في السطح هي القضايا الإنسانية والعنف والإبادة الجماعية والاغتصاب ولذلك ظهرت معسكرات اللاجئين، وقرارات مجلس الأمن التي أرسلت بعثة عسكرية إلى هنالك، هى اليوناميد، فضلاً عن بروز المخلب الإسرائيلي، من خلال رواج مصطلح الإبادة الجماعية، ومقارنته بالهولوكوست، وظهور لوبيات الضغط اليهودية لتستثمر في الأزمة، لكن مطامع إسرائيل في هذه المنطقة تبدو أكثر من ذلك، وتتحدر من دوافع السيطرة على الموارد مثل: الذهب والنفط واليورانيم، إذ إن إسرائيل تعمل منذ أكثر من نصف قرن على تأزيم الأوضاع في السودان ودعم الصراع الداخلي، وشد الأطراف، من أجل إضعافه أمنياً وسياسياً ليسهل التهام دارفور والسودان كله.

عودة لمنبر الدوحة

حرصت الدوحة على أن تتعامل مع قضية دارفور من منطلق التعاون المشترك مع الحكومة السودانية، وطرقت البيوت من أبوابها، واعتمدت في حقل تقاسم السُلطة والوضع الإداري مبدأ ومعيار الكثافة السكانية، وأقرت الاتفاقية جدولاً زمنياً للتنفيذ، بتواريخ مدروسة، وقدم منبر الدوحة مشروع سلام حقيقيا تم التخطيط له بعناية فائقة، وحرص أكيد على إنجاز اتفاقية تستوعب كل الآراء والمطالب والمتغيرات أيضاً، وذلك لم يتأتي إلا بتوسيع المشاورات مع أطراف الصراع، وأهل المصلحة، في القرى والمدن ومعسكرات النزوح، وزعماء القبائل، الذين بدا حالهم كحال الغريق الذي يتمسك بقشة لينجو.
وقد كانت الدوحة بمثابة المنبر الأمثل والملائم لحل قضية دارفور، كما كانت بالنسبة لقضايا أخرى شائكة وأكثر تعقيداً، وهو ما يجب أن ينتبه له حاكم إقليم دارفور، عوضاً عن تدويل الأزمة، وليس أمامه من سبيل سوى الاعتراف بفشل اتفاق سلام جوبا في التعامل مع أزمة دارفور والمناطق الأخرى، وأهمية توحيد المنابر كلها في منبر الدوحة.

المصدر : الجزيرة مباشر