العالم يتغير بأسرع من خيال العلماء.. فكيف نستشرف المستقبل؟!

يحمل الجواز الروسي في طريقه للخارج

حققت مراكز البحوث والخبرة والتفكير في الغرب تقدما كبيرا في مجال استشراف المستقبل، وظن العلماء أنهم يمكن أن يكتشفوا ماذا يمكن أن يحدث في العالم خلال عقود طويلة قادمة؟!

ومن المؤكد أن هذا التقدم في مجال التفكير المستقبلي أصبح مصدر قوة لأمريكا وأوربا حيث شكل أساسا للتخطيط الاستراتيجي، واستغلال الفرص التي يتيحها التغيير في المجالات السياسية والاقتصادية.

لكن الأحداث التي شهدها العالم عام 2022 تفرض علينا مراجعة حصاد هذا التفكير المستقبلي، وتقييم الانتاج العلمي للكثير من مراكز البحوث، وأن نبحث عن مقاربات وأدوات جديدة لفهم ما يحدث في الواقع، وما يمكن أن يشهده المستقبل من مخاطر وتحديات وأزمات.

من حقنا أن نستشرف المستقبل.. ولكن!

إن هذا لا يعني أننا نقلل من أهمية دراسات المستقبل، وما تمكن العلماء من إنجازه في هذا المجال، لكن أهم نتيجة يمكن أن نتوصل لها من مقارنة الدراسات المستقبلية بأحداث هذا العام أن الإنسان يجب أن يتخلى عن الغرور، وأن يدرك أن قدرته على التوقع، أو استشراف المستقبل محدودة، وأن هناك الكثير من الأحداث التي يمكن أن تشكل صدمة للعالم، وتؤدي إلي تغييره لم يستطع العلماء أن يتوقعوها، أو يخططوا لمواجهتها.

هذا الفشل.. لماذا؟!!

إن من حقنا أن نستخدم عقولنا، وكل مناهجنا وأدواتنا العلمية في العمل لاكتشاف المستقبل، لأن ذلك يزيد قدرتنا على حماية المجتمعات من المخاطر، وتوظيف الموارد ومصادر الثروة لبناء القوة والمكانة العالمية، وادارة الصراعات، وتشكيل التحالفات.

ومن المؤكد أن مراكز البحث والتفكير في الغرب تقوم بدور مهم في مساعدة صناع القرار، والمؤسسات السياسية والاقتصادية، وأنها مصدر مهم للقوة.

كما يجب أن نعترف بتقدم هذه المراكز وكفاءة الباحثين الذين يعملون فيها.. لكن لماذا لم تستطع هذه المراكز أن تتوقع ما يواجهه العالم الآن من مخاطر تهدد وجوده؟!

يجب أن نتواضع!

إن أهم نتيجة يمكن أن نتوصل لها هي أننا يجب أن نوظف كل قدراتنا لاستشراف المستقبل.. لكننا يجب أن نتواضع فنعترف أن قدراتنا محدودة، ومناهجنا وأدواتنا العلمية قاصرة.. لماذا؟!!

من أهم القواعد التي يعتمد عليها الباحثون والعلماء في مجال استشراف المستقبل قراءة الواقع، وحسابات القوة الصلبة التي يعتبرونها العامل الرئيس في تحقيق الانتصارات وبناء العلاقات الدولية، وفرض السيطرة على الشعوب.

القوة الغاشمة يمكن أن تفشل!!

فالذي يمتلك القوة الصلبة يستطيع أن يستخدمها في تحقيق أهدافه، وفرض إرادته على الشعوب الضعيفة التي لا تملك سوى الخضوع لإرادة الأقوى، والتسليم بالعجز.

لكن أحداث هذا العام توضح ضرورة إعادة النظر في هذه القاعدة، والاعتراف بأن القوة لها حدودها، وأن الدولة يمكن أن تمتلك القوة الصلبة، وتستخدمها بشكل مكثف، لكنها يمكن أن تتعرض لهزيمة مذلة تكسر كبرياءها، وتدمر ثقتها في نفسها.

مخاطر الاعتماد على القوة

لو راجعنا أحداث هذا العام يمكن أن نكتشف حقائق جديدة تدفعنا لأن نستشرف المستقبل في ضوئها من أهمها:

1- أن القوة الغاشمة يمكن استخدامها في التخريب والتدمير والإبادة وقهر الشعوب، لكنها يمكن أن تفشل في تحقيق المجد والفخر والعزة والإنجازات الحضارية.. فقد خرجت أمريكا مهزومة من افغانستان، بينما حصل الأفغان على مجد الاستقلال، وعز الانتصار.

كما خرجت فرنسا مهزومة من مالي بعد أن استخدمت قوتها الغاشمة في التدمير والتخريب، لكنها عجزت عن تحقيق السيطرة على شعب مالي.

وأنا أكتب هذا المقال أتابع صور جثث الجنرالات والجنود الروس ملقاة على الأرض في خاركيف (أوكرانيا)، وهم يهربون مذعورين كالجرذان.

2- إن الدولة يمكن أن تمتلك القوة الصلبة، لكنها تفشل في حمايتها، فصاروخ واحد بدائي الصنع يمكن أن ينجح في تدمير محطة نووية يتسبب الإشعاع الناتج عنها في هلاك البشرية.

3- إن المبالغة في استخدام القوة الغاشمة يزيد كراهية الشعوب ورغبتها في الثأر والانتقام، وهذا يعوق إمكانيات بناء علاقات دولية على قواعد التعاون والمشاركة.

لماذا تفرح الشعوب المستضعفة؟!

ومن المؤكد أن الولايات المتحدة تدرك جيدا خطورة مشاعر العداء والكراهية التي أصبحت تتزايد ضدها في كل أنحاء العالم حتي في أوربا.

وكذلك تدرك فرنسا أن الشعوب خاصة في أفريقيا  تعبر عن فرحها بهزيمتها وانسحابها من مالي، وأن الناس يتناقلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي أخبار الأزمة التي تتعرض لها أوربا، وينتظرون الشتاء القادم الذي يمكن أن يتجمد فيه الأوربيون من البرد بسبب انقطاع الغاز الروسي.

وهناك أيضا مشكلة تغير المناخ التي أصبحت تهدد البشرية كلها، لكن متابعة وسائل التواصل الاجتماعي تكشف لنا أن الشعوب الضعيفة في آسيا وأفريقيا تعبر عن فرحها خاصة عندما تعلق على الأخطار التي تهدد أمريكا وأوربا.. لماذا؟!!

إن تحليل هذه التعليقات والرسائل، وفهم أسبابها، وتفسيرها، يمكن أن يساهم في زيادة قدرتنا على استشراف المستقبل، فالكراهية لأوربا وأمريكا لم تكن نتيجة أن الأمريكيين رائعون ومتقدمون كما كان يردد مستر بوش.. ولكن كانت بسبب ما تعرضت له الشعوب من ظلم، وما قامت به أوربا وأمريكا من استغلال ونهب لثروات الشعوب الضعيفة التي أصبحت تدرك أن الجشع الرأسمالي الاستعماري هو سبب فقرها وتخلفها.

لذلك لن يحزن الفقراء على انهيار الدول وانكسارها، أو على هلاك البشرية وإبادتها.. فلن يخسر الفقراء أكثر من الذين نهبوا ثرواتهم، وعاشوا حياة الترف باستغلال فقرهم وجوعهم وعرقهم.

إسقاط التجارب الديموقراطية!

والشعوب الفقيرة الضعيفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية تتزايد كراهيتها لأمريكا لأنها فرضت عليها نظم حكم مستبدة استخدمت القوة الغاشمة في قهرها وإفقارها وتجويعها.

لذلك فإن استشراف المستقبل يحتاج إلى دراسة السلوك السياسي والاقتصادي الأمريكي والأوربي خلال العقدين الماضيين.

لقد كانت الشعوب تشتاق للحرية والديمقراطية، فثارت ضد الاستبداد والظلم.. لكن أمريكا استخدمت القوة الغاشمة في إجهاض ثوراتها وتجاربها الديمقراطية، وفرضت عليها نظم حكم مستبدة.

لذلك فإن استشراف المستقبل يحتاج إلى قراءة متعمقة للواقع بمنظور جديد.. فهناك الكثير من المؤشرات التي توضح أن هذا العالم الذي يقوم على الظلم في طريقه إلى الانهيار بسرعة أكبر من قدرات الباحثين والعلماء على التوقع.

ولقد أصبح من المؤكد أن السنوات القادمة ستشهد انهيار الكثير من الدول، فالشعوب الضعيفة لم يعد أمامها سوى الثورة على الظالمين المستبدين الفاسدين في الداخل، وعلى أمريكا التي تساندهم، وتوفر لهم القوة الغاشمة ليقهروا بها شعوبهم.. فالثورة هي الطريق الوحيد للحياة أمام هذه الشعوب، وهي التي يمكن أن تثبت تعلق هذه الشعوب بالحياة، واستعدادها للدفاع عنها.

هذه الحقيقة يمكن أن توضح لنا أن المستقبل سيشهد عملية تغيير واسعة في العالم كله، وأنه لم يعد هناك إمكانيات للمحافظة على الوضع الراهن.

سيخرج المظلومون بحجارتهم!

من أهم الأحداث التي يمكن أن تشهدها السنوات القادمة أن المظلومين سيخرجون بحجارتهم يرجمون بها الظالمين المستبدين، فالغضب يتزايد في نفوس الشعوب، وسينفجر في العالم كله، وهذا سيزيد ضعف أمريكا وأوربا.

ومن المؤكد أن النظم المستبدة التابعة لأمريكا سوف تستخدم قوتها الغاشمة ضد الشعوب، وستقوم بإبادة الكثير من البشر، لكنها في النهاية سوف تنهار.

والحجر سلاح جميل عندما تستخدمه الشعوب في مقاومة الظالمين، وفي مواجهة القوة الغاشمة التي تستخدم الدبابات والرصاص والصواريخ.

فلنغير أساليبنا في البحث!

في ضوء هذه الحقيقة يجب أن يغير الباحثون في مجال استشراف المستقبل أساليبهم ومناهجهم فيدرسون مشاعر الشعوب ومزاجها العام.

فحالة الاكتئاب واليأس التي يعانيها الناس ستتحول إلي موجات غضب ستنفجر قريبا، وستؤدي إلي انهيار الكثير من الدول.

ونقطة الانطلاق لتطوير دراسات استشراف المستقبل هي استطلاع آراء الجماهير بشكل علمي.. لكن السلطات تمنع إجراء استطلاعات الرأي العام، فهي تدرك أنها ستكشف بوضوح عدم شرعيتها وكراهية الناس لها.

كما أن تلك الاستطلاعات يمكن أن تكشف أشواق الناس للحرية والعدل والاستقلال الشامل وتغيير النظم الحاكمة المستبدة المغرورة بقوتها، والتي تعتمد على الدبابات والرصاص في زيادة خوف الشعوب.

والشعوب تعاني الخوف الذي يزيد شعورها بالعجز والتعاسة، ولكنها يمكن أن تكون قد وصلت الآن إلي الوعي بأن الموت الكريم أفضل كثيرا من حياة الذل والهوان والقهر والظلم والجوع والفقر.

هل ضاعت الفرص؟!

هناك الكثير من المؤشرات على أن الفرص كلها قد ضاعت، ولم يعد أمام الشعوب سوى الثورة، وأن تقدم التضحيات لتحقيق التغيير، ولتدافع عن حياتها ووجودها.

لكن ذلك لا يمنع من بذل جهد مخلص لفتح المجال العام أمام الشعوب لتعبر عن آرائها، وأن تقوم الجامعات بدورها في إجراء استطلاعات لاكتشاف آراء الناس، وتحقيق التغيير السلمي، وفتح المجال أمام الشعوب لفرض ارادتها، واختيار قيادات جديدة تقدم مشروعات حضارية تقوم على تحقيق الاستقلال الشامل.. فذلك هو الطريق الوحيد لمواجهة المخاطر والأزمات والصراعات التي تهدد وجود الإنسانية كلها.

المصدر : الجزيرة مباشر