صناعة الأسطورة.. الوجه الآخر لعهد إليزابيث الثانية

جنازة الملكة إليزابيث الثانية في كاتدرائية سالزبوري

 

زخم كبير صاحب خبر الإعلان عن وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، لم يقف عند حدود بريطانيا والدول الغربية، ولكن هيمن على العالم العربي، الذي شهدت فضائياته وصحفه طوفانا من الأخبار والتقارير والتغطيات والأفلام الوثائقية، عن الملكة إليزابيث وعائلتها، حتى بدا الأمر كأن المنطقة خاضعة للتاج البريطاني، وأن الحزن يعتصر قلوب العرب على فراق الملكة؟!

تفاعل عربي لافت

لم تكن وفاة الملكة إليزابيث حدثا مفاجئا؛ فالشيخوخة نالت منها، وكانت صحتها تتراجع بشكل كبير، وكسائر كل حي لابد من نهاية.

وقد يكون مفهوما توسع الإعلام البريطاني والغربي في تناول الحدث، لكن اللافت للنظر هو التفاعل العربي، الذي عكسه توسع وسائل الإعلام العربية الكبرى في تغطية الحدث، ومتابعته منذ اللحظات الأولى لوفاة الملكة، وما أعقبها من أحداث ومراسم، حتى أن كلاب الملكة تصدرت العناوين على مواقع صحف عربية.  لقد كان واضحا مدى هيمنة الإعلام الغربي على الإعلام العربي، فالغرب يصنع الحدث ويوجهه ويستفيد منه، والإعلام العربي يسير في الركب، وبمعنى آخر، يمكن القول إن الهيمنة الغربية متغلغلة.

أسطرة إليزابيث الثانية

لقد كانت الملكة إليزابيث الثانية صاحبة أطول فترة للحكم، وكانت أطول ملوك بريطانيا عمرا، وقد تولت العرش بعد وفاة والدها الملك جورج السادس في 6 فبراير/ شباط عام 1952، في فترة كانت الإمبراطورية البريطانية تعيش خلالها مرحلة تراجع بلا عودة، وكانت بريطانيا بلدا مدمرا بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد كان تتويج إليزابيث في 2 يونيو / حزيران 1953 فرصة للملمة شتات البريطانيين، ورفع الروح المعنوية، فجرت مراسم احتفال أسطورية، غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا، ولعب الإعلام خلالها دورا كبيرا، في أسطرة شخصية الملكة إليزابيث وعائلاتها، وخاصة الإذاعة والتليفزيون، حيث نُقلت مراسم التتويج مباشرة في إنجاز تقني كان الأول من نوعه.

صناعة الصورة الذهنية عن الملكة

ولا شك أن النخبة البريطانية أدركت أهمية الآلة الإعلامية للحفاظ على الصورة الذهنية للملكية، التي تعد عمود الدولة البريطانية، وكذلك للتأكيد على استمرارية الاستعلاء السياسي لبريطانيا، أحد أركان المنظومة الغربية.

ويمكن القول إن الملكة إليزابيث الثانية، وعلى مدى سبعين عاما فترة حكمها، كانت بمثابة علامة تجارية عالمية، بفضل الماكينة الإعلامية، عملت لأجل تعزيز حضور بريطانيا عالميا، والحفاظ على دورها كأحد أركان الهيمنة الغربية، في ظل تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.

أسطورة تختبئ وراءها بريطانيا الاستعمارية

لا جدال في أن الإعلام الغربي يمتلك قوة جبارة في التوجيه وصياغة المواقف، وصناعة الزعماء، بما يملكه من أدوات، وما لديه من دراية بسيكولوجية الجماهير.

لقد صنع الإعلام الغربي من الملكة إليزابيث أسطورة عند وفاتها، كما صنع منها أسطورة طوال حياتها، اختبأت وراءها بريطانيا الاستعمارية، وتاريخ طويل يحمل الكثير من الجوانب المظلمة، ليس في البلاد التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني فحسب، ولكن في بلدان أخرى كانت حكومات صاحبة الجلالة شريكا أصيلا في كثير من الانتهاكات والفظائع التي وقعت فيها.

الوجه الآخر لعهد إليزابيث

شهد عهد إليزابيث 15 رئيس حكومة بريطانية، على مدار نحو سبعين عاما، كانت عقود منها امتدادا لتاريخ بريطانيا الاستعماري، سطت خلالها حكومات صاحبة الجلالة على مقدرات وخيرات كثير من شعوب العالم؛ في المنطقة العربية، وفي أفريقيا، وآسيا؛ وفي سبيل ذلك سُفكت دماء، ووقعت مجازر عديدة؛ راح ضحيتها ملايين البشر، ومن الصعب أن تستوعب الإشارة إليها سطور هذا المقال، ولكن نشير لبعضها.

مجازر حكومات جلالة الملكة

فخلال العقد الأول من تولى إليزابيث كانت بريطانيا تستعمر مناطق كبيرة في أفريقيا، وفي إطار السعي للحفاظ على الهيمنة البريطانية في تلك المستعمرات ارتكبت حكومة صاحبة الجلالة الكثير من الفظائع الوحشية، كانت “مجزرة الماو ماو” في كينينا إحداها، وقد وقعت بعد ستة أشهر من اعتلاء إليزابيث للعرش، وكانت حصيلتها مقتل نحو 100 ألف مقاتل كيني، إضافة لآلاف المدنيين في المعسكرات البريطانية.

ومن كينيا إلى زنجبار عام 1964 حيث وقعت مذبحة بتدبير وتخطيط بريطاني، كان ضحيتها أكثر من 20 ألف قتيل، من العرب والآسيويين.

تاريخ لا يُنسى

أما في المنطقة العربية فتاريخ المملكة المتحدة لا يُنسى، ومازالت المنطقة تعاني من تبعاته، ويكفي وعد بلفور- وإن لم يصدر في عهد إليزابيث- شاهدا ودليلا.

وفي عهد إليزابيث، كانت حكومات جلالة الملكة داعما رئيسيا لتوطيد أركان الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والمنطقة العربية، وشريكا في المجازر الحاصلة بحق الفلسطينيين وغيرهم من العرب.

وكانت حكومة الملكة فاعلا أصيلا في احتلال وتدمير العراق، وأفغانستان، وقتل الكثيرين من الرجال والنساء والأطفال. كما كانت سببا في سفك دماء عشرات الألوف من مسلمي البوسنة والهرسك، حين رفض وزير خارجيتها دوجلاس هيرد منح المسلمين الفرصة المكافئة للرد والدفاع عن أنفسهم ضد مجازر الصرب بحقهم.

خطيئة توني بلير

لقد كان من آخر قرارات الملكة إليزابيث، منح توني بلير رئيس الوزراء السابق-أحد مهندسي تدمير العراق وأفغانستان- وسام الفروسية، وهو أرفع وسام للفرسان بالمملكة المتحدة، الذي يُمنح معه لقب “سير” رسميا؛ وذلك تكريما له، باعتباره شخصية مؤثرة قدمت خدمات لبريطانيا داخليا وخارجيا؟!

وقد آثار ذلك غضب الكثيرين، الذين رأوا أن توني بلير أقل ما يوصف به أنه مجرم حرب، واعتبرت صحيفة صانداي تلغراف البريطانية ذلك صفعة على وجه شعبي العراق وأفغانستان.

ختاما

لقد نجحت آلة الإعلام الغربية في صناعة صورة ذهنية حول الملكة إليزابيث، طوال حياتها وحتى مماتها؛ فجعلت منها اسطورة لدى البريطانيين وكثير من الغربيين، كما خلقت كثيرا من المنبهرين في أوساط النخبة والمثقفين العرب؛ حتى سالت أحبار أقلامهم مدحا في الملكة إليزابيث، وفي الملكية الدستورية، وديمقراطية بريطانيا، لكن هؤلاء المنبهرين غاب عنهم أن تلك الصورة المهندسة بعناية، هي مجرد واجهة، تخفي وراءها وجها آخر لتاريخ وعهد بنى البريطانيون والغرب خلاله رفاهيتهم على حساب سحق شعوب أخرى.

ولئن كان عهد الملكة إليزابيث يراه البريطانيون عهدا حمى التاج البريطاني، وكان رمزا لاستقرار بلادهم ووحدتها، فإنه من ناحية أخرى يراه كثيرون في العالم ممن لا يحملون ذاكرة السمكة عهدا صنعت فيه حكومات جلالة الملكة كثيرا من الذكريات المؤلمة بالنسبة لهم، وكانت صاحبة التاج البريطاني شريكا أصيلا مع حكوماتها، وهذا هو الوجه الآخر لعهد إليزابيث الثانية.

المصدر : الجزيرة مباشر