تَراجُعُ الديمقراطية

فريد زكريا

لا أتحدث هنا عن النسخة المزيفة من الديمقراطية، تلك التي تحاول الأنظمة المستبدة أن تواري بها سوأتها؛ فتلك لم تتقدم خطوة واحدة بعيدًا عن مكمن الاستبداد حتى تتراجع عنها، إنّما أتحدث عن الديمقراطية الحقيقية في بلادها التي وُلِدَتْ فيها، ونشأت وترعرعت على أراضيها، وحققت لشعوبها قدرًا من الرفاهية؛ وإن كان هذا الذي حققته جاء -بحسب هارولد لاسكي- حَسْمًا من أقوات العالم الثالث.

جوهر الديمقراطية

والديمقراطيةُ نظامٌ للحكم يقوم على أساسين جوهريَّيْنِ، الأول: أنّ السيادة التي هي في تعريفها القانوني “التفرد بالحق في إنشاء التشريع الملزم” إنّما هي من حق الشعب وحده، والثاني: أنّ هذا الشعبَ ذاتَهُ هو مَصْدَرُ الشرعية السياسية، هذا بالإضافة إلى أُسُسٍ أخرى قامت للحيلولة دون الاستبداد، كالفصل بين السلطات وتعدد الأحزاب وتداول السلطة، وقد وافقت الديمقراطيةُ النظامَ الإسلاميَّ في الأساس الثاني، أما في الأساس الأول فقد وقف الإسلام والديمقراطية على طرفي نقيض، إذْ إنَّ السيادةَ في النظام الإسلاميّ لشريعة الله. هذا.. غيرَ أنّ الديمقراطية بسطت يمينها على كل الموروث القيمي الإنساني وضمته إليها؛ فإذا تحدث أحد عن الحرية أو عن حقوق الإنسان فإنّما يتحدث عن الديمقراطية بمعناها الذي اتسع لِيُشَكِّلَ هوية الحضارة المعاصرة، وبرغم التراجع الشديد في كل ما استحوذت عليه الديمقراطية من موروث إنسانيّ فسوف ينحصر الحديث هنا عن الديمقراطية كنظام سياسي وحسب.

التحالف النَّكِد

في عهد الرئيس الأمريكي “هربرت هوفر” خرج الفكاهي الأمريكي “ويل روجرز” ساخرًا من جهود “هوفر” للإنعاش، فقال مازحًا: “تم تخصيص كل الأموال للطبقات الغَنِيَّة، على أمل أن تنساب إلى المحتاجين”، هذه هي باختصار الفلسفة التي يقوم عليها التحالف البغيض بين الديمقراطية والرأسمالية، ولَئِنْ كانت الديمقراطية، بفضل النظرية الكينزية، قد تمكنَّت من التخلص المؤقت من بعض أذرع الأخطبوط الرأسمالي؛ لِتَسْعَدَ، لِبِضْعَةِ عقود، بمضامين اجتماعية، فإنّها لم تلبث أن سقطت رهينة النيوليبرالية، التي أعادت من جديد التحالف النّكد بين الرأسمالية والديمقراطية، وذلك مع بداية عهد “ريغان” و”تاتشر”، ومع بزوغ مدرسة شيكاغو على يد “ميلتون فريدمان” الذي لم يفقد الجرأة على أن يعلن عن إمكان استغناء الرأسمالية عن الديمقراطية، بقوله: “وبذا يتضح تمامًا أنّه من الممكن أن تقوم نظم اقتصادية رأسمالية بالدرجة الأولى في ظل نظم سياسية غير حرة”.

ولعله من الطبيعيّ أن تتحالف الرأسمالية والديمقراطية؛ لكونهما نَبَتَا في بيئة واحدة “الحداثة”، التي تمثل الفكرة المركزية للحضارة المعاصرة، والتي يستنكر “ألان تورين” جوهرها في قوله: “فالحداثةُ تَسْتَبْعِدُ أيَّ غائية”، ولعله من الطبيعيّ أيضا أن تهيمن الرأسمالية على الديمقراطية؛ لسببين، الأول: السبق التاريخي للرأسمالية، فقد مَثَّلَ صعودُ “البرجوازية” على حساب الإقطاع شَرْطِيَّةً تاريخية للتحول الكبير في كثير من الأفكار السياسية، والثاني: عشقُ أصحابُ السلطةِ للمال، وقد عَبَّرَتْ “غرين بالاست” في كتابها: “أَفْضَلُ ديمقراطيةٍ يستطيعُ المالُ شراءَها”: “عرفت شيئًا جديدًا عن الحب، وهو حب السياسيين لزعماء المال”.

تداعيات التعانق المشؤوم

في كتاب “فخ العولمة” يقرر المؤلفان أنّ “385 مليارديرًا يمتلكون معًا ثروة تضاهي ما يملكه 2,5 مليار من سكان المعمورة”، وفي كتابه “الاغتيال الاقتصادي للأمم” يستنكر “جون بيركنز” أن “تنفق الولايات المتحدة 87 مليارَ دولارٍ لتقود حربا في العراق، بينما تقدر الأمم المتحدة أنه بنصف هذا المبلغ يمكننا تأمين المياه النظيفة والتغذية الكافية والخدمات الصحية والتعليم الأساسي لكل إنسان على وجه الأرض”، أمّا التفاوت البشع داخل المؤسسة الواحدة فيذكر “توماس بكيتي” نماذج له في أحدث دراسة استقرائية: “في 2011م حَصَّلَ “تيم كوك” من شركة “أبل” 378 مليونَ دولارٍ، حيث كان ذلك الرقم يعادل 6258 ضعف متوسط راتب الموظف في “أبل”.

ولم تقف التداعيات عند هذا الحدّ، وما كان لها أن تقف، لقد اخترقت الآثار النكدة جدار الإنسانية، يعبر عن ذلك “جان بودريار”: “صنمية السلعة تعني عبادة روابط الإنتاج وقوانين السوق؛ بمعنى أن يقع الناس تحت سيطرة السلعة وتتحول العلاقات الاجتماعية محكومة بقوانين السوق كالعلاقة بين السلع”، أمّا مؤلفا “الأناركية” فقالا: “هذا التَّسْلِيعُ يتخلل، ليس فقط ما نأكله أو نلبسه أو نفعله للتسلية، بل كذلك لغتَنَا وعلاقاتِنَا، وحتى ذاتَ تركيبِنا البيولوجي وعقولَنَا، لقد فقدنا، ليس فقط مجتمعاتِنا المحلية وفضاءاتنا العامّة، بل كذلك السيطرةَ على حَيَوَاتِنا الخاصة، فَقَدْنا القدرة على تعريف أنفسنا خارج قبضة الرأسمالية”.

ديمقراطيةٌ أم أوليجارشيةٌ أم هما معًا؟!

في كتابه “كراهية الديمقراطية” يَرُدُّ “جاك رانسيير” كراهية الناس للديمقراطية الآن إلى هيمنة الطبقة النفعية الرأسمالية على الديمقراطية، وأسوق نُتَفًا من كلامه الذي تفرق في أنحاء من كتابه: “والمجتمعات اليوم مثل الأمس ينظمها تلاعب “الأوليجاركيات”، وليس ثمة حكم ديمقراطي بالمعنى المحدد، وأشكال الحكم تمارس دومًا من الأقلية على الأغلبية… لم يكن التمثيل النيابيّ أبدًا نسقًا تم اختراعه لمواجهة النمو السكانيّ، إنه بحق شكل أوليجاركي… كل دولة هي دولة أوليجاركية… لا يمكن تصور نظام لا يكون بمعنى معين أوليجاركيا لكن الأوليجاركية تفتح للديمقراطية مكانًا بدرجة أو بأخرى”.

ولم يكن الأوائل غافلين عن هذا المصير؛ فهذا “ماديسون” يحذر من “المجموعات النفعية” الضاغطة على الحكومات، ويسمي ذلك “أذى الأقلية”، نقل هذا عنه فريد زكريا، لكنه خَطَّأَ ماديسون لأنّه اعتمد في محو تخوفه من هذه المجموعات النفعية على ضخامة الجسد الأمريكي وتعقيد تركيبته، وها هو الواقع كما يصوره “آلان تورين” في كتابه “ما الديمقراطية؟”: “لا يمكن الكلام على الديمقراطية إذا لم يكن أمام الناخبين من خيار إلا بين فريقين من الأوليجارشية أو الجيش أو جهاز الدولة”، وأعتقد أنّ الضمانات التي يقدمها النموذج الإسلاميّ في عهد الراشدين لا يتسنَّى للغرب أن يأخذ بها.

فما الحلّ أيها العقلاء؟

المصدر : الجزيرة مباشر