قوانين القرآن 2 (قانون العبودية)

لم تكن مصادفة أن يأتي أول تكليف للبشرية في القرآن بأن تتحقق بالعبودية لربها قبل فوات الآوان، قال تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ”. البقرة 21

فكان أول قانون من قوانين القرآن: التحقق بعبودية الرحمن، فمن لم يدخل إلى القرآن من باب العبودية لن ينتفع حتماً بالآيات، ولن يصل إلى بر الأمان، بل سيتنكب الطريق، ويسقط في أودية التيه والخسران.

وقد فطر الله الخلق على العبودية، فمن لم يعبد الله جل في علاه فقد أضحى حتماً عبداً لهواه، وليس هناك من لا يعبد أحدا، حتى من يدعي الإلحاد، فهو في الحقيقة عبد لتطلعاته وأهوائه.

والعبودية لله تُحرر الإنسان من أغلال السطوة والسلطة والشهوة وسيف العادات والموروثات.

وعبودية الخلق لبعضهم عبودية إذلال وتسخير واستعلاء، أما عبودية الخلق لربهم فهي عبودية تكريم وعطاء واصطفاء.

وقانون العبودية في القرآن يتمثل في مواد ثلاث:

المادة الأولى: (ما خلقك عابثاً إنما خلقك عابداً).

هذه المادة تقتضي أن تكون حياة الإنسان وفق مراد خالقه وسيده، لا وفق هوى نفسه أو تسلط غيره، فلم يخلقه ربه عبثاً، وإنما خلقه لمهمة سامية.

والعبادة هنا ليست تلك الشعائر التعبدية فحسب، فهذه لا تأخذ إلا جزءاً من وقته، وإنما العبودية المرادة مع العبادة الشعائرية هي العمل على تعبيد الأرض كلها لله، عن طريق السعي الدائب والجهد الفائق في محراب الإعمار والاستخلاف.

لذا قال تعالى: “وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ”. الذاريات 56

المادة الثانية: (حريتك في أرضه بقدر استغنائك عن خلقه).

فالعبودية لله عين الحرية في الأرض، وأكثر الناس تحققاً بالعبودية لله أكثرهم استغناءً عن الخلق، واستعلاءً على الباطل، وشعوراً بكرامة الاصطفاء، وعز الاستغناء، قال ابن عطاء: (ما أحْبَبْتَ شَيئاً إلا كُنْتَ لَهُ عَبْداً، وَهُوَ لا يُحِبُّ أنْ تَكونَ لِغَيْرِهِ عَبْداً).

وقال أيضاً: (أنْتَ حُرٌّ مِمَّا أنْتَ عَنْهُ آيِسٌ، وَعَبْدٌ لِمَا أنْتَ لَهُ طَامِعٌ).

فعبوديتك للأشياء بقدر تمكنها من قلبك، والله لا يقبل في قلب عباده إلا ما كان له سبحانه، فمن كان شغفه بالدرهم والدينار كان عبداً للدرهم والدينار، ومن كان شغفه بالملابس والمظاهر كان عبداً للملابس والمظاهر، ومن كان شغفه بالشهرة والسمعة كان عبداً للشهرة والسمعة، ومن كان شغفه بربه جعله سيداً لكل شيء.

فموطن المهمة ليس محصوراً في أرض بعينها دون أرض، ولا موطن دون موطن، وإنما هي الأرض كل الأرض لاعذر لأحد في عدم التحقق بالعبودية ولا يقبل من أحد ألا يقوم بالمهمة، فإن ضاقت عليه مساحة منها، فتح الله باب التكليف في مساحات أخرى واسعة من أرضه وملكه الممتد، لذا قال تعالى: “يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ”. [العنكبوت 56)

المادة الثالثة: (لن تدخل إليه بدون العبودية فحافظ عليها).

هنالك تسقط كل الأسماء والمسميات والألقاب والمناصب، وتتلاشى كل الألوان التي رسمت بها البشرية صوراً لها في شتى مجالاتها،

وتبقى العبودية لله تعالى أخلد الصفات، وأصدق الانتماءات، وعليها يكون الحشر والميعاد، فلا أحزاب هنالك ولا تجمعات، ولا أنساب هنالك ولا تكتلات، ولا أعراق هنالك ولا تيارات، قال تعالى: “إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا”. مريم 93

المنحرفون عن القانون

وقد انحرف أقوام عن قانون العبودية فارتضوا أن يعيشوا أذلة في محراب الشهوات، كهنة في معابد الأنظمة والسلطات، سكارى يتخبطون في دروب الشبهات، عبيداً مستضعفين تحت سطوة الحاجة والرغبات!

بل وصل الأمر إلى أن انحدرت طوائف من البشرية ارتضوا السجود للفئران والحشرات، والتعبد للأصنام والأبقار والفروج والعقارب والحيات!

وسقطت أنظمة دولية وفلسفات اجتماعية صرعى التهافت الفكري، فانصرفت عبوديتهم للمكاسب المالية، والسطوة الإعلامية، والاستثمارات الوهمية، وانجرف البعض الآخر فجعلوا العقل  خالقاً والنص مخلوقا، وصنعوا للهوى معابد يطوفون بها ليل نهار! فماذا حصدوا جراء انحرافهم؟!

التشتت والضياع:

حيث يصبح الانسان ممزقًا بين شبهاته وأفكاره وشهواته ورغباته، تجذبه هذه تارة وتلك تارة أخرى، فلا يدري سبيل النجاة ولا طريق الهداية، قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا  الْحَمْدُ لِلَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 29]

تسلط الشيطان وأتباعه:

إن الحماية الإلهية ميزة حصرية لعباد الله المتحققين بمعاني العبودية، وكلما تحقق الإنسان بالعبودية كان أهلا للمزيد من الحماية ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42]

الندم بعد فوات الأوان:

حيث يكتشف الانسان يوم القيامة أن كل ما اهتم به من دون الله صار بلا قيمة، وأن القيمة الوحيدة هي لرضا الله وطاعته والعبودية له، قال تعالى: “ولَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِ‍َٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ● بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ”. الأنعام 27 – 28

المتحققون بالقانون

تحقق قوم بقانون العبودية فعاشوا وفق مراد ربهم، لا رغبة لهم إلا إرادته، ولا بغية لهم إلا مرضاته، ولا حاكم لهم إلا كتابه… فماذا حصدوا؟

الحفظ والحماية:

إن عباد الله يعيشون في كنفه ورعايته، لذا فما يبدو في ظاهره مكمن الخطر يصبح بردًا وسلامًا لعباده سبحانه، قال تعالى: “أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُۥۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦ”. الزمر 36

وراثة الأرض:

وهو تمكين المؤمنين في الأرض ومنحهم الاستعلاء بالإيمان، وعدم الخضوع لحزب الشيطان، والنجاح في التأهل لواجب الاستخلاف، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾. [الأنبياء: 105]

التنعم برضوانه في جناته:

قال تعالى: “يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ● ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ● فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ● وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي) الفجر 27 : 30

وأخيراً

إذا لم تكن عبداً ولن تكون أبداً إلهاً، فالزم شرف العبودية لربك يسعدك في دنياك وآخرتك.

المصدر : الجزيرة مباشر