مصر: أزمة التعليم الرسمي.. وازدهار التعليم البديل!

الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم المصري

نتائج شهادة الثانوية العامة التي أعلنها وزير التربية والتعليم في مصر، السبت 6 أغسطس/آب الجاري، وبغض النظر عن نسبة النجاح، لا تعني أنها حصيلة التدريس خلال عام بالمدارس الرسمية التابعة للوزارة، وإنما هي نتاج التعليم البديل خارج المدرسة الحكومية.

هذا النوع من التعليم -ووصفه بـ”التعليم البديل” من عندي- هو بكلمة واحدة الدروس الخصوصية.

هذه الدروس صارت التعليم الواقعي والحقيقي الذي ينتظم فيه الطلاب، وهي تُعتبر عماد التعليم الأساسي بمراحله المختلفة؛ الابتدائي والإعدادي والثانوي، والطلاب يدفعون أموالًا ضخمة فيها تضاعف مصاعب الحياة على عوائلهم.

مدارس مهجورة

الطلاب هجروا مدارسهم، وتحديدًا المدارس الحكومية، المدارس الخاصة والأجنبية لا يزال مستوى التعليم فيها معقولًا بسبب الرقابة والمتابعة والرسوم المالية الكبيرة، ومع هذا فلا بد من الدروس الخصوصية فيها أيضا، هذه الدروس آفة متجذرة في كل أنواع المدارس، وفي مختلف الصفوف، والتخلص منها ليس هينًا، وهي أحد أوجه أزمة التعليم الذي يحتاج معجزة تنقذه بعد أن أصبح أكبر حقل تجارب فاشلة خلال ثلاثة عقود من الزمن.

 “سناتر” وكتب خارجية

وأكثر التجارب عبثية ما حدث خلال السنوات الأخيرة، وهناك تَوَهُّم بأنهم يقومون بأهم عملية تطوير في التعليم، ويزداد التوَهُّم عندما يتم الترويج بأن العالم المتقدم منبهر بمخرجات التعليم ويرغب في نقل التجربة المصرية إليه، في حين أن أبسط إجراء وهو أداء الامتحانات إلكترونيًّا عبر “التابلت” لا يزال يتعثّر.

وندلل على اتساع دوائر الوهم بأن المدارس مهجورة من الطلاب، وكتب الوزارة على جهاز “التابلت” قد لا يفتحها الطالب، فالتعليم الحقيقي في مراكز الدروس الخصوصية “السناتر”، والكتب الخارجية لمختلف المواد الدراسية هي الأساس في التحصيل لدى الطالب، وقد اشتريت لابنتي كتبًا بنحو 1200 جنيهًا.

ونزيد وزير التعليم من الشعر بيتًا، فنقول إنه بينما كان يعلن نتيجة ثانوية هذا العام 2022، فإن طلاب ثانوية 2023 رتبوا صفوفهم وحددوا جداول دروسهم وتجمعوا فعليًّا في المراكز التعليمية الخاصة، أو شكلوا مجموعات متوسطة أو ضيقة العدد، على الرغم من أن العام الدراسي الرسمي لم يبدأ بعد، فلا يزال هناك ما يقرب من شهرين حتى تفتح المدارس أبوابها شكليًّا.

التعليم البديل ينطلق

التعليم البديل المدفوع المزدهر انطلق على سكته مثل كل عام، وعندما يُفتتح العام الدراسي الرسمي يكون الطلاب قد أنهوا نصف منهج التيرم الأول، ولا يكونون في حاجة إلى الذهاب إلى المدرسة. لماذا يذهبون وقد اختصروا الطريق وتعلموا في مدارس بديلة يرونها أكثر جدوى لهم؟

المؤكد أنني مع المدرسة الرسمية، فهي الأصل في التعليم، وأنا من الجيل الذي تلقى دروسه في سنوات التعليم الأساسي بها؛ من الصف الأول الابتدائي حتى الثالث الثانوي العام، وأنا ضد الدروس الخصوصية، فالأساس أن يدرس الطالب ويركز في فصله ويراجع ويجتهد ويعتمد على نفسه، واستثناءً يمكنه أن يتقوَّى في مادة أو اثنتين مثلًا إذا وجد ضعفًا لديه فيهما بعدد معين من الحصص، أما أن يتلقى دروسًا خاصة في كل المواد، فهذا إعلان فشل للمدرسة المهجورة، وناقوس خطر يدق بصوت عال وصاخب منذ سنوات طويلة عن تراجع التعليم، وهناك عدم اكتراث بهذه الحالة الخطيرة، وهي حالة انعزالية أو انفصالية عن الواقع المؤلم للمدارس الخاوية على عروشها من الطلاب.

المُدرّس وإدمان الدروس

والمدرسون هم من يعملون في التعليم البديل، أي الدروس الخاصة، فهي مصدر الدخل الأهم والأكبر لهم، وهم يشتكون من ضعف رواتبهم، وتقديري أن الرواتب إذا زادت فلن يتم الإقلاع عن إدمان الدروس، فالأزمة تزداد تعقيدًا وتشمل المدرسة مبنى ونهجًا ومنهجًا ومُدرسًا وفلسفة للتعليم نفسه.

لعلنا نتذكر واقعتين حدثتا مؤخرًا تتعلقان باستعراض مدرسين وهما ذاهبان لإعطاء مراجعات نهائية قبل الامتحانات؛ الأولى لمدرسة مادة الأحياء التي كانت الحراسة الخاصة (بودي جارد) تحيط بها وهي في طريقها لتقديم درس بمسرح يتسع لمئات الطلاب، والثانية لمدرس مادة الفلسفة وعلم النفس حيث كان الطلاب يقفون صفين متقابلين في انتظاره حاملين أعلامًا للترحيب به، وهو يدخل مركز شباب لتقديم درس ليلة الامتحان.

هذا تمجيد للتدريس البديل، وحط من شأن المدرسة التي هى جوهر العملية التعليمية.

مشروع تطوير جاد

معضلة التعليم لن تُحلّ بالإجراءات التكنولوجية التي يتم التركيز عليها حاليًّا، بل لا بد من مشروع تطوير واقعي جاد متكامل يمزج بين نمطي التعليم التقليدي والحديث، ويبدأ التنفيذ من الصف الأول الابتدائي، ويضع هذا المشروع القومي فريق من أساتذة كليات التربية والخبراء والمعلمين والمتخصصين في كل المجالات ذات العلاقة بالتعليم والتربية والتفكير والبحث، وقاعدة هذا المشروع هي البيئة المحلية، ويستلهم ما هو مناسب ومفيد من التجارب الخارجية.

لا ندعو إلى بقاء التعليم كما كان في صورته التقليدية، بل يجب مواكبة العصر والتكنولوجيا الحديثة والاستفادة من ثورة الاتصالات والإنترنت لكي يطلع الطالب على كل صنوف العلم والمعرفة، ولكن كيف تتم صياغة مشروع تعليمي حداثي متطور ويكون مجديًا ونافعًا ومقبولًا وتظهر آثاره فورًا في مدرسة عامرة بطلابها، جاذبة لهم، تبني عقولًا وتوسّع أفهامًا وتهيّئ أجيالًا لمواصلة تعليم أعلى يتخرج فيه مواهب ومشروعات باحثين ومبتكرين ومخترعين ومفكرين؟ هذا هو التحدي الحقيقي.

التعليم مفتاح النهوض

اليابان نهضت بعد دمارها في الحرب العالمية الثانية عبر التعليم، وكذلك ألمانيا التي خرجت من نفس الحرب محطمة تمامًا، وأمريكا قالت نحن أمة في خطر بسبب تراجع مستوى التعليم فانهمكت في تطويره، وكل الدول المتقدمة اعتمدت في نهضتها على التعليم، وليس أي شيء آخر، فالتعليم هو الاستثمار الحقيقي المضمون والآمن، هو الأمن القومي للشعوب والأوطان، وعائد هذا الاستثمار حتمًا يُدِرّ فوائد لا حصر لها، ومنها المال الوفير.

التعليم هو مفتاح نهوض كل الدول المتقدمة صناعيًّا وإنتاجيًّا وزراعيًّا وتكنولوجيًّا وعلميًّا وثقافيًّا وحضاريًّا.

شعب متعلم، هو شعب عاقل واع مُفكر مُنتج حرّ كريم.

المصدر : الجزيرة مباشر